#موسم_ذبول_اللوتس
#القصة_المتحصلة_على_المرتب ة_الأولى في مسابقة القصة القصيرة حروف أسيرة النسيان التي نظمتها مجلة سراج الحياة.
ملاحظة: سوسن اسم مأخوذ عن المصريين القدامى، الذين أطلقوا اسم "شنسن" عن اللوتس البيضاء، والمعلومات المُقدمة أدناه عن دورة حياة الزهرة معلومات علمية ثابتة، وكل ما ورد ذكره عن رمزيتها "للخصوبة والحياة" واردة في ميثولوجيا الآسيويين.
موسم ذبول اللوتس!
حضرت اليوم نفسي، للموت الآتي الليلة، أ لا يقولون أن "أحباب الموت" يشعرون بقدومه، لا أعرف، ربما شعرتُ بذلك أيضا، لكنني مثلهم، لا لسان لي لأقول، أنني الليلة على موعد معه. سقيت أزهار شجرة الأكاسيا الصغيرة، التي غرستُها قبل فترةٍ في شرفتي لجلب الفراشات إليها، تفتَّحت زهورها بسرعة، أزهارٌ صفراء صغيرة بهية، طيِّبةُ الرائحة، كانت شجرة مُدلَّلة كثيرا، لأنني كنت دائما أحرص على دفئها، حتى لا تغادرَني إطلالة الفراشات الملوَّنة كل صباح، لأن لا احد غيرَها، كان يمرُّ بشرفتي للتحية، كان منزلي في الواقع حزينا، هادئا أكثر ممَّا يجب، لأنه خال من أنس او رفقة، عدا أشباح الذكريات التي تسكنه، فهو المنزل المتبقي لي من والداي رحمهما الله، عدتُ إليه بعد حصولي على الطلاق من زوجي، بعد زواجٍ دام عامين، زواجٌ كان ثمرة حبٍّ أسطوري، اعتقدتُ أن لا سنين تقوى عليه، و لا الموتُ بعظمته يُفنيه، لكن، كان للحياة كلمة اخرى.
أخرجتُ من درجي دفاتري وكل ملاحظاتي التي كتبتها ليوم رحيلي، ووضعتُها على المكتب لتكون في متناول الجميع، شعرتُ أنها بعد الآن، لن تكون أسراري، وأنها بعد اليوم، ستصبح بمنزلة الوصية المقروءة، لم أكن أملك ميراثا قيما أو أشياء ثمينة، وحتى إن وُجدت، لم يكن لدي من يرثها، لأن زواجي لم يشق كبدي على فلذة منه، اترك لها شيئا مني يذكرها بي، بل على العكس، انتهى زواجي أساسا، لأنني اكتشفت أنني لا يمكنني أن أصبح أما. بعد ما يقارب العام من زواجي، كان الجميع قد بدأ فضوله الشرقي المعتاد في مجتمعاتنا، عن سبب تأخر حملي، وتلك الزيارات المتعددة للأطباء كانت دائما تنتهي بطمأنةٍ منهم لي ولزوجي "إياس" أن لا مشكلة أبدا تعيق أن نحظى بثمرة شاهدة تمنح زواجنا بُعْدَ الأسرة، وقالوا أن التأخر ليس سوى نتيجة لأسباب نفسية متعلقة بتوتري و تفكيري الشديد في الأمر.
مرت الأيام، كان إياس فيها نعمَ الزوج و الصاحب، كان زواجنا محفوفا بالمودة و الاحترام، كانت شعلته ملتهبة كما كان أول مرة، عندما كنا طلابا في الجامعة، لم يدخر أبدا جهدا في إرضائي و إسعادي، كان يعاملني على أنني طفلته المدللة، بعد عام من زواجنا كان ما يزال يكتب لي رسائل قصيرة قبل خروجه إلى العمل، و يرسل أحيانا باقة ورود من مكان عمله، كما لو أننا مازلنا عشاق الجامعة، لم يكن يخطر ببالي أن غمامة الإنجاب تلك التي بدت لي "غيمة صيف" عابرة كانت قد بدأت تكبر و تسود أكثر، لقد أحببته بدوري، كما لم تحبَّ امرأةٌ، لأنه لم يكن الزوج فحسب بالنسبة لفتاة وحيدة عائلة، و يتيمة أبوين، كان أخي، صديقي و أبي و كل دنياي، كنتُ مستعدة للموت من أجله إن لزم الأمر، نظرةُ حزن واحدة في عينيه كانت كافية لقتلي، لتحطيمي، كانت تكفي لأكره الحياة و العالم أجمع، لكنني كنت أشعر بالعجز يسيطر علي يوما بعد آخر، عندما كنتُ أرى أنني أصبح سبب شروده عندما يرى أصدقاءه و أقاربه يداعبون أطفالهم، أصبح الموت يمزقني بسكاكينه في كل لحظة أراه ينظر مطوَّلا بعين دامعة أحيانا لصور الاطفال، في المجلات أو الإعلانات التلفزية، قد يبدو للجميع أن الرجال لا يضعفون إلى هذا الحد من أجل الأطفال، لكنني رأيت إياس منهارا، كما لم يكن من قبل، ضعيفا كسيرا كما لن يكون أبدا، كان في حاجة بعد حبه و اهتمامه بي، أن يرى مني "صبيا أو فتاة" يأخذان منه بعدي حبه و يسكنهما بجواري في قلبه.
بعد فترة شعرت بتعب شديد، كما لو أن مرضا يضعفني وينهك جسدي بشدة، لكنني لم أهتم كثيرا للأمر، واعتقدت أن السبب هو وضعي النفسي والضغوطات التي أعيشها بسبب موضوع حملي من جهة، وكذلك وضع الجفاء الذي أصبح يعنون العلاقة بيني وبين إياس مؤخرا. كنا كما لو أن بيننا جبالا وقارات و محيطات تفصلنا، و إن كنا في ذات الغرفة، كنتُ أخشى حتى أن أعاتبه، لأنني و في قرارة نفسي أعلم أن موضوع الإنجاب هو السبب، فكنتُ أكتم عتابي في صدري، و أربِّت على عواصفي لتهدأ، نعم كنتُ أغضب، من شعور النقص ذاك الذي يراك به الجميع، كنتُ أغضب لأنني بدأت أستسلم أيضا لذلك، و بدأت أشعر أن أنوثتي لا تكتمل، و بدأ ذلك الشعور يكبر و ينهش داخلي في صمت، و لم أكن أجِد غير صديقتي "أنيسة" تخفف قليلا من وطأة الحزن عندما تزورني باستمرار، و تسمعني عندما أفضي لها بكل ما أعيشه و أشعره.
لم تدم هذه الأيام طويلا حتى استيقظت يوما في المستشفى، كنتُ قد وقعتُ في المنزل وأُغمِي عليَّ، ووجدني إياس لدى عودته من العمل، غارقة في دمائي التي تفجرت من جرح في رأسي لما ارتطمت بالأرض عندما فقدت توازني ووقعت. طلب الطبيب ذلك اليوم على عجل استشارة الطبيبة المختصة بأمراض النساء والتوليد بالمستشفى، وقضينا النهار بطوله نتنقل بين كل أجنحة المشفى نجري مختلف التحاليل، التي اعتقدنا في البداية أنها ولا شك من أجل تأخر حملي لا أكثر، لكن الحقيقة كانت أكبر من ذلك، وأشد قسوة أيضا، في ذلك اليوم، أُطفْئت آخر أنوار الأمل في أن أكون أمًّا لطفلٍ من حبيبي إياس، لقد أسفر التحليل على إصابتي بسرطان في الرحم، في مراحل متقدِّمة، بسبب تأخر تشخيصه.
نسيتُ نفسي في تلك اللحظة والطبيبة تبلغني الخبر، ونظرت إلى إياس مطوَّلا، سرحتُ في ملامحه، لم أُبعِده عن مرآي و لو لثانية، لم أسمح حتى لجفوني باللقاء، كنتُ أخشى أن اغلق عيناي و افتحهما و اعرف أنني لست وسط كابوس مزعج، أمعنت بصري في الدمعة المكابرة بين أهدابه، في بؤبؤ عينيه الذي بدى كحطام المرايا المكسورة، رأيته و هو يتخبط كالمعلَّق على حبل المشنقة، و كنتُ أنا "السجَّان"، و رغم أن الأمر لم يكن الأمر بيدي، لكنني أنا من شددتُ ذلك الحبل حول عنقه. آه، كم بدى إياس مسنا، كيف كبر بتلك السرعة وشاخت تقاسيم وجهه، آه، كم كان متعبا. عدنا إلى المنزل، و لم يتحدث أيٌّ منا مع الآخر، بكيت ما شاء الله لي، و استمر الحال كذلك لأيام، و قبل ليلة من اليوم المقرر لإجراء عمليتي الجراحية لاستئصال رحمي، جلست مع إياس في غرفة مكتبه، كان قد وهب نفسه للعمل، ليتجنب لقائي، و محادثتي، و لينسى حيرته، بين حبه لي، و حبه للطفل الذي لن أمنحه إياه، بين صوته الداخلي الذي يُحدِّثُه بالبقاء وفاء أو شفقة لا أدري، و بين الفوضى الخارجية التي تحيطه و تصُمُّ حواسه و تطالبه بالزواج لإنجاب ولي عهده الذي يحمل اسمه من بعده، في تلك الليلة قررت أن أنهي غرقَه، أردت أن أهديه طوق نجاة من اللُّجج التي يغرق فيها، حتى و إن كناتُ قد حكمتُ على نفسي بالغرق إلى اللانهاية، و بكامل إرادتي.
أخبرته أنني أعود إلى بيت أهلي، وأنني لن أكون أبدا عائقا في طريق سعادته، ما دمتُ لا أستطيع أن أهديه تلك السعادة التي يريدها، منحتُهُ خيار الابتعاد فقط، منحتُه حرية الزواج من أجل ولد، وإذا به يصمت، لم يحاول منعي حتى، لم أكن أنتظر أن أغير رأيي إذا ما طلب مني البقاء، لكنني اعتقدت كأي امرأة، أن لِحبي وعشقي وللأيام التي جمعتنا خاطرٌ لديه، وعندما انشقَّ صمته، قال مباشرة، أنه سيرسل ورقة طلاقي إلى عنوان والداي إن كان ما يزال نفسه، قال مجاملا أو مواسيا بعدها، ان العملية ستكون ناجحة، و انني سأكون بخير، وأنه سيكون بجانبي. خرجتُ من المنزل الذي اعتقدت أنه جنتي، وشعرتُ أنني كنتُ يومَها كحواء التي طُرِدت مرة اخرى من الفردوس، لكن من دون آدَمِها هذه المرة، عرفتُ يومها أنني خرجت "نصف أنثى" من هناك، وسأبقى كذلك دوما.
في اليوم الموالي لم أذهب إلى موعد العملية، كانت على أيِّ حالٍ محاولةً يائسة لمنع انتشار السرطان في جسدي لا أكثر، لأن كل فحوصاتي كانت تشير إلى أن المرض سيكون دائما ومميتا، كنتُ متأكدة أنني سأموت وحيدة، وخشيت من أن يطلبني الموت إليه وتكون أضواء غرفة العلميات آخر نور أراه.
حاول إياس يومها ثنيي عن قرار الإعراض عن العملية، تعددت زياراته لي في منزل والداي، لكنني كنتُ قد عزمتُ أمري على الاستمرار في العلاج الكيميائي، لا من باب نيتي في الشفاء التام، إنما أردتُ فقط، أن أحقق أمرا أخيرا قبل رحيلي. بعد وقت ليس بالطويل، وبعد أن بلغني أن إياس رُزِق بطفل من زواجه الثاني، وجدتُ أن أيامي تمر بلا معنى، وأن وجودي أصبح حقا أمرا مرهقا للحياة لأنني لا أفعل شيئا، سوى الاستسلام أكثر للمرض، فخطرت ببالي فكرة، قررتُ فتح مركز صغير للعناية بالنساء خاصة من يعانين من ظروف صعبة تمنع خضوعهن للمعاينة، وحصولهن على العلاج، ألحقتُ به أطباء مختصين بأمراض النساء والعقم، وأخصائيي توليد، بعد أن استثمرت فيه أموالا كنتُ قد ادَّخرتُها بنية أن افتح مكتب محاسبة مستقل لإياس، لكن، وجدتْ النقود طريقا آخر لها الآن.
عامٌ يُتِمُّ تعداد أيامه اليوم، لم أكُن خلاله سوى أنثى لا تملك غير هذه الشرفة المزهرة، التي تبدِّد الفراشات والطيور وحشتها قليلا، أجلس فيها، أبثُّ الزهور شكواي، التي أذبلتْ بعضَها، أسلِّم نفسي للكتب و الأوراق، أقرأ و أكتب، و حواسي ضائعة مع أنغام الموسيقى، أو صوت المذياع الذي بقي من أيام والدي رحمه الله، لقد أصبح صوت سُعالي الشديد بسبب المرض الذي أعلن سيطرته عليَّ، و شارف أعتاب الانتصار، و صوت المذياع المتقطع المتذبذب، أصبحا جزءا من روتيني اليومي، أصبحا شيئا من الطرب بالنسبة لي، تكتمل ألحانهما بفوضى الطريق الذي تطل عليه شرفتي، التي ما عدتُ الآن أعتبرها فوضى أبدا، أصبحت كأناشيد الأطفال التي تهدهد بها الأمهات أطفالهن للنوم.
رغم أنني شعرت بتعب شديد اليوم، بالكاد استيقظت واستطعت مغادرة سريري، لكنني أرغمت نفسي على ذلك، حتى أزور مركز "اللوتس" اليوم، لأنهم يحتفلون بمُضِيِّ عامٍ على افتتاحه، طلبوا وجودي ليحتفلوا بي كما لو أنني كنتُ "إلهة الخصوبة" بالنسبة لهن، لأن أغلب من في المركز، كنَّ نساء مثلي، قصةً أرادت أن تكتمل، صورة مبعثرة أرادت أن تنتظم، و أمومة أرادت أن تتفتح زهرتها، وتحقق ذلك للكثيرات، ممَّن كنَّ يملِكْنَ احتمالا و لو ضئيلا بالإنجاب، و عملُ الطاقم الطبيعي للمركز عظَّم ذلك الاحتمال و عزَّز فرصه في أن يعانق الحقيقة. كنتُ في النهاية بمثابة "الأم الروحية" لكل الأطفال الذين أطلقوا صرختهم الأولى في "اللوتس"، لم أستطع أن أكون أمًّا، لكنني منحتُ لغيري من النساء، ولو بمساهمة بسيطة، فرصة أن يعيشوا شعور الأمومة بالنيابة عني و عن كل النساء اللائي بَقينَ.."ناقصات".
عدتُ قبل قليل من الافتتاح، نظرت إلى حوض الماء الصغير، الذي تتربع فيه زهرة اللوتس" التي أهدتني إياها أنيسة عند عودتها من جولتها الآسيوية رفقة زوجها قبل أشهر، تذكرتُ انيسة، كم أردتُ رؤيتها، لألثُم حنانها و وفاءها لي طيلة هذه السنوات لآخر مرة، لكنها كانت في رحلة رفقة زوجها، الذي جاءه عمل طارئ خارج البلد، أذكر أنها أهدتني الزهرة و قالت أنها على اسمي "سوسن"، أخبرتني أنها لدى الآسيويين تعتبر زهرة كاملة نقية، و رمزا لرحم المرأة الذي تنبعث منه الحياة، قالت هذا و عانقتني و همست في أذني، بعبارة "سأحظى بأطفال منك ينادونني يا خالة"، لا تدري كم كانت كلماتها تلك ضمادا لجراحي. أنظر الآن إلى الزهرة التي رغم أنها تعيش معي مكابرة بعيدا عن بيئتها، لكنني حاولت جاهدة لإبقائها على قيد الحياة، ها هي الآن، ماتزال بجمالها، ببياضها الناصع، عائمة على سطح ماء حوضها، تتزين بلآلئ قطرات الماء، التي ليست سوى دموعها التي تسيل لتطهرها من كل نجس قد يصيبها، لكنها الآن، بدأت تضم أوراقها، لأن الشمس تسير إلى مغربها، لأنها زهرة لا تتبختر وتتباهى بأوراقها المتفتحة إلا للشمس.
يصادف اليوم أيضا، اليوم الخامس والأخير من دورة حياتها، آه! ليس عدلا أن تكون الحياة لهذه الزهور الرائعة، مجرد خمسة أيام قصيرة، تُغلق فيها الزهرة بتلاتها بغروب شمس اليوم الأخير، لتسقط، وتنثر بذورها الخالدة، لتمنح الحياة لقرنة خضراء فتية تظهر بقلبها، تكون برعم زهرة اللوتس الآتية.
أعلم أن زهرتي ستغلق اليوم بتلاتها لآخر مرة، ستموت مثلي اليوم، عقيمة، لأنه لا يوجد من يعتني بها بعدي. فقط لا أدري الآن، هل سأشهد نهاية حياتها اليوم، أم هي من ستنثر أوراقها لاحقا حزنا على موتي.
ثقلت يداي فجأة، وسقط قلم حبري على الورقة، أملتُ رأسي وحَنيْتُه على الطاولة، لأنه بدا ثقيلا جدا، شعرتُ بموجة برد تعتريني، بدأت عند أطراف أصابعي، سقطت محبرتي وتناثر الحبر إثر سقوطها في كل مكان، وتوضَّعت قطرات منه على زهرتي، صُمَّت أذناي، أصبحت كل الأصوات من حولي تبدو بعيدة جدا، كما لو أنها تصدر من آبار عميقة، أصبحت تبلغ سمعي مختنقة، تضببت رؤيتي، وكان آخر ما رأيت وأنا أشعر بالهواء يجرح صدري في كل شهيق وزفير زهرة "اللوتس"، كانت آخر ما أغلقت عيناي على منظره.
خمسة أيام فقط، تكفي لتذبل زهرتَيْ لوتس، بقيتا نصفين متفرقين، وجد الموت طريقا ليُكمِّل نقصهما اليوم.
بقلم: نعمة نقاب
#القصة_المتحصلة_على_المرتب
ملاحظة: سوسن اسم مأخوذ عن المصريين القدامى، الذين أطلقوا اسم "شنسن" عن اللوتس البيضاء، والمعلومات المُقدمة أدناه عن دورة حياة الزهرة معلومات علمية ثابتة، وكل ما ورد ذكره عن رمزيتها "للخصوبة والحياة" واردة في ميثولوجيا الآسيويين.
موسم ذبول اللوتس!
حضرت اليوم نفسي، للموت الآتي الليلة، أ لا يقولون أن "أحباب الموت" يشعرون بقدومه، لا أعرف، ربما شعرتُ بذلك أيضا، لكنني مثلهم، لا لسان لي لأقول، أنني الليلة على موعد معه. سقيت أزهار شجرة الأكاسيا الصغيرة، التي غرستُها قبل فترةٍ في شرفتي لجلب الفراشات إليها، تفتَّحت زهورها بسرعة، أزهارٌ صفراء صغيرة بهية، طيِّبةُ الرائحة، كانت شجرة مُدلَّلة كثيرا، لأنني كنت دائما أحرص على دفئها، حتى لا تغادرَني إطلالة الفراشات الملوَّنة كل صباح، لأن لا احد غيرَها، كان يمرُّ بشرفتي للتحية، كان منزلي في الواقع حزينا، هادئا أكثر ممَّا يجب، لأنه خال من أنس او رفقة، عدا أشباح الذكريات التي تسكنه، فهو المنزل المتبقي لي من والداي رحمهما الله، عدتُ إليه بعد حصولي على الطلاق من زوجي، بعد زواجٍ دام عامين، زواجٌ كان ثمرة حبٍّ أسطوري، اعتقدتُ أن لا سنين تقوى عليه، و لا الموتُ بعظمته يُفنيه، لكن، كان للحياة كلمة اخرى.
أخرجتُ من درجي دفاتري وكل ملاحظاتي التي كتبتها ليوم رحيلي، ووضعتُها على المكتب لتكون في متناول الجميع، شعرتُ أنها بعد الآن، لن تكون أسراري، وأنها بعد اليوم، ستصبح بمنزلة الوصية المقروءة، لم أكن أملك ميراثا قيما أو أشياء ثمينة، وحتى إن وُجدت، لم يكن لدي من يرثها، لأن زواجي لم يشق كبدي على فلذة منه، اترك لها شيئا مني يذكرها بي، بل على العكس، انتهى زواجي أساسا، لأنني اكتشفت أنني لا يمكنني أن أصبح أما. بعد ما يقارب العام من زواجي، كان الجميع قد بدأ فضوله الشرقي المعتاد في مجتمعاتنا، عن سبب تأخر حملي، وتلك الزيارات المتعددة للأطباء كانت دائما تنتهي بطمأنةٍ منهم لي ولزوجي "إياس" أن لا مشكلة أبدا تعيق أن نحظى بثمرة شاهدة تمنح زواجنا بُعْدَ الأسرة، وقالوا أن التأخر ليس سوى نتيجة لأسباب نفسية متعلقة بتوتري و تفكيري الشديد في الأمر.
مرت الأيام، كان إياس فيها نعمَ الزوج و الصاحب، كان زواجنا محفوفا بالمودة و الاحترام، كانت شعلته ملتهبة كما كان أول مرة، عندما كنا طلابا في الجامعة، لم يدخر أبدا جهدا في إرضائي و إسعادي، كان يعاملني على أنني طفلته المدللة، بعد عام من زواجنا كان ما يزال يكتب لي رسائل قصيرة قبل خروجه إلى العمل، و يرسل أحيانا باقة ورود من مكان عمله، كما لو أننا مازلنا عشاق الجامعة، لم يكن يخطر ببالي أن غمامة الإنجاب تلك التي بدت لي "غيمة صيف" عابرة كانت قد بدأت تكبر و تسود أكثر، لقد أحببته بدوري، كما لم تحبَّ امرأةٌ، لأنه لم يكن الزوج فحسب بالنسبة لفتاة وحيدة عائلة، و يتيمة أبوين، كان أخي، صديقي و أبي و كل دنياي، كنتُ مستعدة للموت من أجله إن لزم الأمر، نظرةُ حزن واحدة في عينيه كانت كافية لقتلي، لتحطيمي، كانت تكفي لأكره الحياة و العالم أجمع، لكنني كنت أشعر بالعجز يسيطر علي يوما بعد آخر، عندما كنتُ أرى أنني أصبح سبب شروده عندما يرى أصدقاءه و أقاربه يداعبون أطفالهم، أصبح الموت يمزقني بسكاكينه في كل لحظة أراه ينظر مطوَّلا بعين دامعة أحيانا لصور الاطفال، في المجلات أو الإعلانات التلفزية، قد يبدو للجميع أن الرجال لا يضعفون إلى هذا الحد من أجل الأطفال، لكنني رأيت إياس منهارا، كما لم يكن من قبل، ضعيفا كسيرا كما لن يكون أبدا، كان في حاجة بعد حبه و اهتمامه بي، أن يرى مني "صبيا أو فتاة" يأخذان منه بعدي حبه و يسكنهما بجواري في قلبه.
بعد فترة شعرت بتعب شديد، كما لو أن مرضا يضعفني وينهك جسدي بشدة، لكنني لم أهتم كثيرا للأمر، واعتقدت أن السبب هو وضعي النفسي والضغوطات التي أعيشها بسبب موضوع حملي من جهة، وكذلك وضع الجفاء الذي أصبح يعنون العلاقة بيني وبين إياس مؤخرا. كنا كما لو أن بيننا جبالا وقارات و محيطات تفصلنا، و إن كنا في ذات الغرفة، كنتُ أخشى حتى أن أعاتبه، لأنني و في قرارة نفسي أعلم أن موضوع الإنجاب هو السبب، فكنتُ أكتم عتابي في صدري، و أربِّت على عواصفي لتهدأ، نعم كنتُ أغضب، من شعور النقص ذاك الذي يراك به الجميع، كنتُ أغضب لأنني بدأت أستسلم أيضا لذلك، و بدأت أشعر أن أنوثتي لا تكتمل، و بدأ ذلك الشعور يكبر و ينهش داخلي في صمت، و لم أكن أجِد غير صديقتي "أنيسة" تخفف قليلا من وطأة الحزن عندما تزورني باستمرار، و تسمعني عندما أفضي لها بكل ما أعيشه و أشعره.
لم تدم هذه الأيام طويلا حتى استيقظت يوما في المستشفى، كنتُ قد وقعتُ في المنزل وأُغمِي عليَّ، ووجدني إياس لدى عودته من العمل، غارقة في دمائي التي تفجرت من جرح في رأسي لما ارتطمت بالأرض عندما فقدت توازني ووقعت. طلب الطبيب ذلك اليوم على عجل استشارة الطبيبة المختصة بأمراض النساء والتوليد بالمستشفى، وقضينا النهار بطوله نتنقل بين كل أجنحة المشفى نجري مختلف التحاليل، التي اعتقدنا في البداية أنها ولا شك من أجل تأخر حملي لا أكثر، لكن الحقيقة كانت أكبر من ذلك، وأشد قسوة أيضا، في ذلك اليوم، أُطفْئت آخر أنوار الأمل في أن أكون أمًّا لطفلٍ من حبيبي إياس، لقد أسفر التحليل على إصابتي بسرطان في الرحم، في مراحل متقدِّمة، بسبب تأخر تشخيصه.
نسيتُ نفسي في تلك اللحظة والطبيبة تبلغني الخبر، ونظرت إلى إياس مطوَّلا، سرحتُ في ملامحه، لم أُبعِده عن مرآي و لو لثانية، لم أسمح حتى لجفوني باللقاء، كنتُ أخشى أن اغلق عيناي و افتحهما و اعرف أنني لست وسط كابوس مزعج، أمعنت بصري في الدمعة المكابرة بين أهدابه، في بؤبؤ عينيه الذي بدى كحطام المرايا المكسورة، رأيته و هو يتخبط كالمعلَّق على حبل المشنقة، و كنتُ أنا "السجَّان"، و رغم أن الأمر لم يكن الأمر بيدي، لكنني أنا من شددتُ ذلك الحبل حول عنقه. آه، كم بدى إياس مسنا، كيف كبر بتلك السرعة وشاخت تقاسيم وجهه، آه، كم كان متعبا. عدنا إلى المنزل، و لم يتحدث أيٌّ منا مع الآخر، بكيت ما شاء الله لي، و استمر الحال كذلك لأيام، و قبل ليلة من اليوم المقرر لإجراء عمليتي الجراحية لاستئصال رحمي، جلست مع إياس في غرفة مكتبه، كان قد وهب نفسه للعمل، ليتجنب لقائي، و محادثتي، و لينسى حيرته، بين حبه لي، و حبه للطفل الذي لن أمنحه إياه، بين صوته الداخلي الذي يُحدِّثُه بالبقاء وفاء أو شفقة لا أدري، و بين الفوضى الخارجية التي تحيطه و تصُمُّ حواسه و تطالبه بالزواج لإنجاب ولي عهده الذي يحمل اسمه من بعده، في تلك الليلة قررت أن أنهي غرقَه، أردت أن أهديه طوق نجاة من اللُّجج التي يغرق فيها، حتى و إن كناتُ قد حكمتُ على نفسي بالغرق إلى اللانهاية، و بكامل إرادتي.
أخبرته أنني أعود إلى بيت أهلي، وأنني لن أكون أبدا عائقا في طريق سعادته، ما دمتُ لا أستطيع أن أهديه تلك السعادة التي يريدها، منحتُهُ خيار الابتعاد فقط، منحتُه حرية الزواج من أجل ولد، وإذا به يصمت، لم يحاول منعي حتى، لم أكن أنتظر أن أغير رأيي إذا ما طلب مني البقاء، لكنني اعتقدت كأي امرأة، أن لِحبي وعشقي وللأيام التي جمعتنا خاطرٌ لديه، وعندما انشقَّ صمته، قال مباشرة، أنه سيرسل ورقة طلاقي إلى عنوان والداي إن كان ما يزال نفسه، قال مجاملا أو مواسيا بعدها، ان العملية ستكون ناجحة، و انني سأكون بخير، وأنه سيكون بجانبي. خرجتُ من المنزل الذي اعتقدت أنه جنتي، وشعرتُ أنني كنتُ يومَها كحواء التي طُرِدت مرة اخرى من الفردوس، لكن من دون آدَمِها هذه المرة، عرفتُ يومها أنني خرجت "نصف أنثى" من هناك، وسأبقى كذلك دوما.
في اليوم الموالي لم أذهب إلى موعد العملية، كانت على أيِّ حالٍ محاولةً يائسة لمنع انتشار السرطان في جسدي لا أكثر، لأن كل فحوصاتي كانت تشير إلى أن المرض سيكون دائما ومميتا، كنتُ متأكدة أنني سأموت وحيدة، وخشيت من أن يطلبني الموت إليه وتكون أضواء غرفة العلميات آخر نور أراه.
حاول إياس يومها ثنيي عن قرار الإعراض عن العملية، تعددت زياراته لي في منزل والداي، لكنني كنتُ قد عزمتُ أمري على الاستمرار في العلاج الكيميائي، لا من باب نيتي في الشفاء التام، إنما أردتُ فقط، أن أحقق أمرا أخيرا قبل رحيلي. بعد وقت ليس بالطويل، وبعد أن بلغني أن إياس رُزِق بطفل من زواجه الثاني، وجدتُ أن أيامي تمر بلا معنى، وأن وجودي أصبح حقا أمرا مرهقا للحياة لأنني لا أفعل شيئا، سوى الاستسلام أكثر للمرض، فخطرت ببالي فكرة، قررتُ فتح مركز صغير للعناية بالنساء خاصة من يعانين من ظروف صعبة تمنع خضوعهن للمعاينة، وحصولهن على العلاج، ألحقتُ به أطباء مختصين بأمراض النساء والعقم، وأخصائيي توليد، بعد أن استثمرت فيه أموالا كنتُ قد ادَّخرتُها بنية أن افتح مكتب محاسبة مستقل لإياس، لكن، وجدتْ النقود طريقا آخر لها الآن.
عامٌ يُتِمُّ تعداد أيامه اليوم، لم أكُن خلاله سوى أنثى لا تملك غير هذه الشرفة المزهرة، التي تبدِّد الفراشات والطيور وحشتها قليلا، أجلس فيها، أبثُّ الزهور شكواي، التي أذبلتْ بعضَها، أسلِّم نفسي للكتب و الأوراق، أقرأ و أكتب، و حواسي ضائعة مع أنغام الموسيقى، أو صوت المذياع الذي بقي من أيام والدي رحمه الله، لقد أصبح صوت سُعالي الشديد بسبب المرض الذي أعلن سيطرته عليَّ، و شارف أعتاب الانتصار، و صوت المذياع المتقطع المتذبذب، أصبحا جزءا من روتيني اليومي، أصبحا شيئا من الطرب بالنسبة لي، تكتمل ألحانهما بفوضى الطريق الذي تطل عليه شرفتي، التي ما عدتُ الآن أعتبرها فوضى أبدا، أصبحت كأناشيد الأطفال التي تهدهد بها الأمهات أطفالهن للنوم.
رغم أنني شعرت بتعب شديد اليوم، بالكاد استيقظت واستطعت مغادرة سريري، لكنني أرغمت نفسي على ذلك، حتى أزور مركز "اللوتس" اليوم، لأنهم يحتفلون بمُضِيِّ عامٍ على افتتاحه، طلبوا وجودي ليحتفلوا بي كما لو أنني كنتُ "إلهة الخصوبة" بالنسبة لهن، لأن أغلب من في المركز، كنَّ نساء مثلي، قصةً أرادت أن تكتمل، صورة مبعثرة أرادت أن تنتظم، و أمومة أرادت أن تتفتح زهرتها، وتحقق ذلك للكثيرات، ممَّن كنَّ يملِكْنَ احتمالا و لو ضئيلا بالإنجاب، و عملُ الطاقم الطبيعي للمركز عظَّم ذلك الاحتمال و عزَّز فرصه في أن يعانق الحقيقة. كنتُ في النهاية بمثابة "الأم الروحية" لكل الأطفال الذين أطلقوا صرختهم الأولى في "اللوتس"، لم أستطع أن أكون أمًّا، لكنني منحتُ لغيري من النساء، ولو بمساهمة بسيطة، فرصة أن يعيشوا شعور الأمومة بالنيابة عني و عن كل النساء اللائي بَقينَ.."ناقصات".
عدتُ قبل قليل من الافتتاح، نظرت إلى حوض الماء الصغير، الذي تتربع فيه زهرة اللوتس" التي أهدتني إياها أنيسة عند عودتها من جولتها الآسيوية رفقة زوجها قبل أشهر، تذكرتُ انيسة، كم أردتُ رؤيتها، لألثُم حنانها و وفاءها لي طيلة هذه السنوات لآخر مرة، لكنها كانت في رحلة رفقة زوجها، الذي جاءه عمل طارئ خارج البلد، أذكر أنها أهدتني الزهرة و قالت أنها على اسمي "سوسن"، أخبرتني أنها لدى الآسيويين تعتبر زهرة كاملة نقية، و رمزا لرحم المرأة الذي تنبعث منه الحياة، قالت هذا و عانقتني و همست في أذني، بعبارة "سأحظى بأطفال منك ينادونني يا خالة"، لا تدري كم كانت كلماتها تلك ضمادا لجراحي. أنظر الآن إلى الزهرة التي رغم أنها تعيش معي مكابرة بعيدا عن بيئتها، لكنني حاولت جاهدة لإبقائها على قيد الحياة، ها هي الآن، ماتزال بجمالها، ببياضها الناصع، عائمة على سطح ماء حوضها، تتزين بلآلئ قطرات الماء، التي ليست سوى دموعها التي تسيل لتطهرها من كل نجس قد يصيبها، لكنها الآن، بدأت تضم أوراقها، لأن الشمس تسير إلى مغربها، لأنها زهرة لا تتبختر وتتباهى بأوراقها المتفتحة إلا للشمس.
يصادف اليوم أيضا، اليوم الخامس والأخير من دورة حياتها، آه! ليس عدلا أن تكون الحياة لهذه الزهور الرائعة، مجرد خمسة أيام قصيرة، تُغلق فيها الزهرة بتلاتها بغروب شمس اليوم الأخير، لتسقط، وتنثر بذورها الخالدة، لتمنح الحياة لقرنة خضراء فتية تظهر بقلبها، تكون برعم زهرة اللوتس الآتية.
أعلم أن زهرتي ستغلق اليوم بتلاتها لآخر مرة، ستموت مثلي اليوم، عقيمة، لأنه لا يوجد من يعتني بها بعدي. فقط لا أدري الآن، هل سأشهد نهاية حياتها اليوم، أم هي من ستنثر أوراقها لاحقا حزنا على موتي.
ثقلت يداي فجأة، وسقط قلم حبري على الورقة، أملتُ رأسي وحَنيْتُه على الطاولة، لأنه بدا ثقيلا جدا، شعرتُ بموجة برد تعتريني، بدأت عند أطراف أصابعي، سقطت محبرتي وتناثر الحبر إثر سقوطها في كل مكان، وتوضَّعت قطرات منه على زهرتي، صُمَّت أذناي، أصبحت كل الأصوات من حولي تبدو بعيدة جدا، كما لو أنها تصدر من آبار عميقة، أصبحت تبلغ سمعي مختنقة، تضببت رؤيتي، وكان آخر ما رأيت وأنا أشعر بالهواء يجرح صدري في كل شهيق وزفير زهرة "اللوتس"، كانت آخر ما أغلقت عيناي على منظره.
خمسة أيام فقط، تكفي لتذبل زهرتَيْ لوتس، بقيتا نصفين متفرقين، وجد الموت طريقا ليُكمِّل نقصهما اليوم.
بقلم: نعمة نقاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق