بعد يوم طويل من العمل وإنجاز عشرات الملفات المتراكمة داخل تلك الإدارة اللعينة.... يعود ذلك الرجل الطويل ذو اللحية الغير مرتبة بمشيته المتعرجة قاصدا المنزل في ساعة متأخرة من الليل .....تستقبله زوجته بابتسامتها المعهودة لكن عضلات وجهه تأبى الاسترخاء أمام ضحكتها وتبقي على وجهه العابس مثل كل مرة يعود فيها إلى منزله .....يتناول عشاءه ويطبع قبلة على جبين إبنه الوحيد ذو العام والنصف....يصعد إلى غرفته المنظمة من طرف زوجته ويستلقي في سريرهما ممسكا هاتفه مطلعا على آخر الأخبار التي تحدث في العالم ....الذي أصبح بفضل التطور التكنولوجي مثل قرية صغيرة .....تاركا زوجته في المطبخ تغسل الأواني وتنظف آثار العشاء...
كان العالم في ذلك اليوم هائجا جدا بسبب قرار ترامب التعسفي في حق الفلسطنيين وترسيمه للقدس عاصمة للإحتلال .....على كل هذه الضجة لم تكن تثير اهتمامه خاصة وأنه يكره الفلسطينيين والعرب تماما ....كان يخبر الناس دوما بأن حلمه الوحيد هو زيارة إسرائيل بلد العلم و التكنولوجيا وأن الفلسطينيين ليسوا إلا مجرد أوغاد باعوا قضيتهم ويستعطفون العالم من أجل ممارسة قذارتهم ...
..فور انتهائه من رؤية آخر مستجدات الساحة السياسية خلد إلى نومه دون أن ينتظر حتى زوجته ...ليقول لها تصبحين على خير ...كان حقا بارد المشاعر ....
ما إن غط في النوم حتى شعر بدوار شديد ....رأى دوامة من ألوان قوس قزح .. وجد نفسه وسط طريق معبد بالرمل ...والشمس في أوج ظهور لها ....ما إن مشى مسافة 100 متر حتى عثر لافتة مكتوب عليها منطقة منصورة الخيط .....هنا أحكمت الحيرة قبضتها عليه فقد كان في قرارة نفسه يعلم أنه يعرف هذه المنطقة لكن ذاكرته قد خانته ......
دخل تلك القرية يستكشفها لكنها كانت خالية على عروشها...زد على ذلك أنها تبدو قرية بدائية فقد كانت البيوت مبنية بالطين ....بل ولم يكن هناك أي أثر للاسمنت ...او شيء يوحي للناظر أننا في العام 2018... كان الوقت ظهيرة وكل الناس في منازلها مختبئة من حر الشمس .....ومن دون سابق إنذار رأى دبابات قادمة باتجاه القرية إضافة إلى جنود يمشون وهم ممسكون برشاشاتهم ...بكل خفة اختبأ وراء جدار موجود على حافة القرية ...وبدأ يراقب الجنود الذين اقتحموا القرية بكل قوة وبدأوا في إخراج الرجال والنساء والأولاد من منازلهم .....كان الرجال يقتلون وأما النساء فكن تغتصبن أمام أعين العامة وفي داخل المنازل
كان يسمع صراخ الأطفال وبكائهم ....كان صراخهم يدل على أنهم من العرب الشرقيين .......لكن أين هو بالتحديد ؟؟؟
في تلك اللحظة تذكر ذلك البائس كل شيء !!!!
مايحدث أمامه هو مجزرة منصورة الخيط التي ارتكبها الصهاينة في حق الفلسطينيين الأبرياء العزل....
لقد عاد به الزمن إلى 18 سبتمبر من عام 1984
بعد أن علم ذلك ...تملكه ذعر وخوف شديدين ...بدأ يتأمل جنود الاحتلال وهم يقتلون كل شخص ....استجمع قواه ثم نزل إلى وسط ساحة القرية ...أراد أن يتجه للجنود لكن أصابته رصاصة قبل أن يقدم على أي شيء......أحس بدوار قوي ثم سقط مغميا عليه ....
داخل غيبوبته عادت إليه من جديد تلك الدوامة الملونة بقوس قزح ...ماهي إلا لحظات حتى وجد نفسه وسط سوق مليء بالناس ....لم يبتعد كثيرا عن تلك القرية حسب ظنه ...كونه مزال يستمع إلى رواد تلك السوق وهم يتحدثون باللهجة الفلسطينية.....بعد جولة خفيفة وسط السوق واحتكاكه ببعض من الناس استطاع أن يعرف أنه في نحالين تلك المنطقة الواقعة في القدس المحتلة ... بعد زمن قصير سمع هتافات الناس ...نعم لقد كانت هناك هناك حرب بالحجارة بين أهالي المنطقة وجيوش الاحتلال على حد قول أحد الباعة هناك ...قبل أن يسمع دوي الرصاص في السماء ... اتجه ببطء نحو مصدر الرصاص متوخيا حذره...إلى أن وصل شارعا طويلا وقف في أوله وهو يلاحظ الصراع في أوجه بين الفلسطينيين الذين يرمون الحجارة من فوق السطوح و جنود الاحتلال الذين يرمون بالرصاص في كل مكان وجهة ....
كان يدرك أنه مجرد حلم لذلك حاول أن يبرز قليلا من شجاعته ..فقام بكل رشاقة وصعد نحو سطح أحد المنازل ورشق جنود الاحتلال .....ماكان يراه كان كفيلا بأن يجعله يدرك مدى معاناة الفلسطينيين وآلامهم التي يندى لها الجبين ...ما كان يراه من جنود الإحتلال في تلك اللحظات القليلة من سب وشتم و إطلاق للنار في مختلف الجهات كان يعبر وبكل وضوح عن وحشيتهم ولا إنسانيتهم ....أخذ يرشقهم بالحجارة بكل ما أوتي من قوة ...لكن رصاصة طائشة من أحد الجنود فقتلته افتراضيا ودفعت به داخل تلك الدوامة متعددة الألوان أين وجد نفسه هذه المرة وسط مسجد الأقصى .....بدأت حاسة سمعه تتعود على المكان شيئا فشيئا حتى أدرك أنه وسط خطبة الجمعة...كان الخطيب غاضبا بشدة...تيقن أنه يتحدث عن عزم ترامب على إتخاذ القدس عاصمة للكيان الصهيوني وغضبه الشديد لذلك واستنكاره سكوت العرب ....
على غير ما وقع له في المرتين الماضيتين بدأ ذاك التعيس يتذكر زوجته وبروده اتجاهها ...لم يفهم .حتى كيف تبادرت إلى ذهنه لكنه كان يدرك حق الإدراك أنه تجاهلها أكثر من اللازم......فاجأه وهو غارق في أفكاره صوت الخطيب وهو يقول :قومو إلى صلاتكم يرحمكم الله.......بعد نهاية الصلاة وجد المصلين يهتفون بنصرة الأقصى ثم بدأت الإشتباكات ....ما أثر في قلبه كثيرا رؤية النسوة اللاتي نهضن من أجل نصرة الأقصى ومواجهتهن لشرطة الإحتلال الظالمة
أفكار كثيرة بقيت تدور في رأسه بين اكتشافه لحقيقة معاناة الفلسطينيين وندمه على إهمال زوجته ..و.غضبه من الإسرائيلين الأوغاد .. .
وسط تلك الأفكار المتراكمة داخل رأسه ...أحس بصوت عذب يناديه ويوقظه من النوم ....لم تكن دوامة متعددة الألوان ....بل زوجته بشحمها ولحمها توقظه لأداء صلاة الفجر .....بعد أن استيقظ أمسك هاتفه ليرى الساعة فإذا به يفاجأ بخبر عاجل ....فلسطين تستقل وتطرد المحتل الصهيوني ......
هنالك اختلط عليه الحابل بالنابل ...ولم يدرك أين يعيش ...قال في قرارة نفسه : ربما مازلت أحلم.
بقلم" داود لغواطي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق