#حب_أقوى_من_الموت.
#القصة_المتحصلة_على_المرتب
الإهداء:
مرفوعة بكل أمانة إلى من أشعلت في دربي دموع الفرح، وأهدتني كثيرا من زنابق الحب، إلى من أحببتها فوق مستوى الحب، فكانت حياتي امتدادا لأنفاس حياتها، إلى من هي بعض عمري، إلى من تسمو فوقها الكلمة، أهدي بعضا هو كلي..
كثيرة هي حكايا الحب وكل واحدة منها تحمل تفاصيل مختلفة عن الأخرى، متناوبة ما بين لقاء وفراق، حزن وفرح، مما يضم سجل الحياة بين دفتيه من متناقضات لا تقف عند حدود حصر أو انتهاء، وحكاية حبها هي بعض من هذا وذاك.
برّح بها الشوق، وأضناها الحنين إليها، فأطلقت تنهيدة طويلة تنم عن وجع أصيل، وجع يستريح في ذاكرة القلب، سقطت على وجنتيها دمعتين حارتين انبثقتا من سويداء القلب، رفعت رأسها ونظرت إلى طفلها الصغير الذي كان يدلف الغرفة جيئة وذهابا باحثا عن لعبته الصغيرة التي كان يعشقها كثيرا، ثم ناداها ماما أين لعبتي؟ تركتها هنا؟.
دفعته عنها برفق كبير وأحست أنها مشتاقة لهذه الكلمة المقدسة، فاخذت ترددها دون وعي منها، ماما ، ماما، كان لهذه الكلمة الصغيرة مفعول السحر، لم تشأ ان تمسح تلك الدموع الطاهرة، شعرت ان أي يد تمتد إليها ستدنس طهر معانيها، مدت يدها إلى خزانة صغيرة كانت بجانب الاريكة التي كانت تحلس عليها وأخرجت منها ألبوم صور كانت تحتفظ به هناك.
أخذت تقلب الصور وإذ بدموع نورانية تتساقط سحا وتسكابا تعالج جرحا عالقا بين الضلوع، وفي كل مرة كانت تقلب صورة تقربها إلى صدرها وتلصقها بقلبها مرددة في لوعة تمزق نياط القلوب ماما ،ماما، وفجاة لمعت في رأسها فكرة، فنهضت مسرعة وهي تقول بصوت ما بين الجهر والهمس سأزورها، نعم سأذهب لزيارتها اليوم.
كان باب الغرفة مواربا ونور خافت ينبعث من زوايا الغرفة دفعت الباب برفق ونادت ماما ،ماما ،أين أنت لقد اشتقت إليك، لقد حئت ماما.
لم تجبها بكلمة واحدة كانت جالسة في ركن مظلم من الغرفة، أقبلت عليها تعانقها بلهفة وشوق، أحست أنها لم تفرح بها كعادتها، ورأتها وقد خيم الحزن علبها وتعلو وجهها مسحة من الكآبة، فسألتها مابك ماما لماذا أنت حزينة هكذا؟ ماذا ألم بك حبيبة القلب؟ رفعت إليها عينين مليئتين بالدمع ونظرت إليها نظرة مليئة بالعتاب واللون، وأجابتها بصوت منخفض وقلب منكسر ، لقد نسيتموني . لا احد يزورني، لا احد يتذكرني، سرت كقطعة أثاث قديمة مهملة، اشعر بالوحد والوحشة.
ضمتها في حنان بالغ وقبلت منها البدين والجبين، ومدت يدها المرتعشة تمسح عنها دمعة حارة ، سقطت في كفها وإذ بها تتحول إلى بقعة كبيرة من دم، بقيت تنظر إلى الدم الذي صار يسيل بين أصابعها وقد بلغت منها الدهشة كل مبلغ، وعقدت الحيرة لسانها، ولكنها استجمعت بقايا قوة مهشمة كانت رابضة بأعماقها وقالت لها بصوت متهدج ىتخنقه العبرات: أمي إذهبي عند أختي الصغرى هي وحدها بالبيت ليس لديها أولاد ستؤنس وحدتك وتسليها، ردت عليها بضعف شديد كيتيم يقف عند قارعة الطريق ينتظر يدا حنونا تمسح على شعره وتمحو الحزن الرابض بأعماقه وقالت لها دون ان تنظر إليها: أريد أطفالا، أريد أطفالا صغارا يؤنسون وحدتي، أرسلوا لي أولادا صغارا، هذا كل ما أريد، هم الذين سيملؤون عليا حياتي، هم الحب الذي لا يخطأ طريقا إلى القلب، هم النور الذي ينبجس من أعماق الصدق، هل ستفعلين؟
ماما ماما أين لعبتي؟ كان هذا صوت الحياة، صوت ابنها يناديها من جديد، فتحت أجفانها ونظرت حولها فوجدت نفسها في مكانها على الأريكة وهي تضع يدها على صورة والدتها المتوفية التي ضمتها إلى صدرها، ويدها الأخرى تحت خدها وقد امتلأت دمعا.
رجّعت واسغفرت الله وقامت توضأت وصلت ركعتين وناجت ربها ودعت لوالدتها بالرحمة والمغفرة، و تأكد لها أنه كان حلما ، من فرط شوقها لها وسألت الله ان يكون خيرا.
ولكن إحساس خفي ممزوج بنوع من المرار والخوف والترقب غزا قلبها وسيطر على كيانها، ولم تستطع منه فكاكا.
بعد أيام قليلة شعرت بدوار ووهن شديد في جسمها، وعلا سحنتها اصفرار وبداوعليه التعب والإنهاك، انتبهت على صوت الطبيبة تسألها هل لك أبناء من قبل، طفل وحيد أحابتها، وقد نال منها الخوف وبدأت دقات قلبها تتزايد بشدة وعلمت أنه لم يكن حلما بل نبوءة، وطلبا حقيقيا، لم تسع الفرحة زوجها وضحك كالأطفال الصغار، ولكنها لم تكن كذلك.
مرت الشهور بسرعة والعائلة تترقب بلهفة قدوم الزائر الجديد إلا أن إحساسها كان يأخذها هناك إلى خلف السراب، وظل أملها معلقا على أسوار الغياب.
كائن جديد ينمو بأحشاها بل قل بقلبها يتغذى من روحها، وحيرة السؤال تدنو منها، تنبش في الذاكرة وتترك استفهاما يجوس بالأعماق وأملا يطرق أبواب الوجع.
كلما مر يوم واقترب موعد الولادة كانت يصيبها هلع وخوف من الآتي، لطالما كانت أحاسيسها صادقة، هل ستصدق الرؤيا؟ نعم أكيد ستصدق، هل ستلبي نداء الحب؟
كان الجنين نشيطا جدا طيلة فترة الحمل، ولكن قبل موعد الولادة بيومين هدأ فجأة واستسلم للسكون، فزع الزوج وكل الأسرة أصابها ذعر شديد، اخذوها إلى المستشفى، تجمع حولها الأطباء، وظلوا يرددون لننقذ الأم ، لننقذ الأم، الجنين سيموت، اسقط في يد الزوج وذرف دموعا حارة على أمل ضاع، وحلم جميل عصفت به رياح الاقدار، والكل كان جزبنا، حتى السماء بكت بحرقة ومرارة لاذعة، ماعدا هي كانت فاقدة للقدرة على الإحساس، تجمدت مشاعرها وتحول حلمها إلى تمثال بارد من رخام.
فجاة دبّت الحركة وعاد الجنين إلى الحياة وعاد الأمل يراود القلوب وأطاح بحكم القدر، ولكن وحدها لم تعد الفرحة إلى قلبها وظلت تترقب موعدا مع القدر.
في الليلة نفسها جاءها المخاض، واستقبلت الحياة روحا جديدة بصرخة مستنكرة وغصة في قلب أم فاجأها اليقين على حين غرة.
كانت فتاة جميلة جدا بعينين زرقاوين وبياض فاتن وجمال ساحر أخٌاذ، كل من رآها تركت في قلبه علامة آسرة، ولا أحد كان يصدق أنها ولدت بنصف قلب، إلا والدتها أدركت ان النصف الثاني هناك حيث يرقد قلبها تحت اللحد
أشهر من المعاناة والألم وسفر يأخذهم من عذاب إلى عذاب، وأمل تخبو جذوته في القلوب يوما بعد آخر، وأرواح تحترق في أتون الوجع تطارد سرابا يحط كطير القطا في صحراء الروح القاحلة.
كانت الحلم الفجبعة، الحلم الحب يتمدد بأعماقها وتتسع هوته حتى تكاد تبتلعها، فتغرق في سديم من التفتت والضياع، ويرن الصدى بأعماقها مدويا أريد أطفالا، أريد أطفالا.
أخذت تقلب بصرها بين فلذة كبدها التي كانت تستسلم للوداع وتننطفئ الحياة بداخلها رويدا رويدا، وصراخها عاد مكتوما وأنينها يملأ أرجاء الغرفة وقد استحالت إلى بقايا بشر.
كان الأنين المتواصل يمزق صمت الليل ويتردد صداه في جوارحها وجنبات المستشفى، وكانت تعلم أنها مسألة وقت فقط، ولكن الانتظار سجان طاغية وجبار عنيد، مستبد يتسلى بآلام الفؤاد المقرح، ويعبث بأرواح ضامئة أنهكها القدر.
أي قوة هذه التي احتلت روح أم ثكلى تنتظر أن تبرّ بوعد قطعته على نفسها ذات حلم غدا واقعا، كانت ألام صغيرتها فوق احتمالها فتهرع إلى سجادتها تناجي ربها في جلال السجود،وأنفاسها زفرات وروحها تتقطع حسرات، فتقول يا رب خذها إليك، إرحم قلبها الضعيف، يارب خذها إلى أمي ألم يكن وعدا؟، ألم يكن عهد؟، يارب خذ قلبي إلى قلبي.
كانت امسية باردة، موحشة تستنزف دموع القلب كما حملت لها الابتهاج يوما هاهي تحمل لها شرائط الحزن تغزل منها كفنا للحبيبة، وقد بدأت الروح الثائرة تخمد في الجسد الخائر المسجى على سرير الموت الموصول بأسلاك الرحمة، هاهي الأنفاس تعلو وتهبط وتنسل رويدا رويدا، انتفضت غريزة الأم بداخلها هرعت إلى الطبيب وهي تنزف ألما تتوسله بحرقة موجع: أعد الحياة إلى ابنتي، أنقذ قطعة من روحي، نظر إليها الطبيب الذي كان يغالب بقايا النوم العالقة بأهدابه، وقال لها بهدوء شديد: سيدتي ابنتك راحلة، لن تعود. لحظات فقط وسينتهي كل شيء، لو سمحت أخرجي وانتظري حتى اناديك، لن تتحملي، ردت بهدوء أذهل الطبيب والممرضات بعد ان ثابت إلى رشدها، أرجوك دكتور لا تحرمني من أن اعيش مع ابنتي آخر أنفاسها لأزرعها بصدري إلى الأبد. لحظات كانت احد من النصال المغروزة في القلب كانت تميك ببديها الصغيرتين ومرددة لله ما أعطى ولله ما أخذ، وارتفع صوت المؤذن الله أكبر، الله أكبر، .....الصلاة خير من النوم، ضمت ابنتها إلى قلبها لآخر مرة، شمت رائحتها لتحفظها بأعماقها إلى الأبد، ثم قامت توضأت وصلت الفجر ورفعت يديها تشكر الله أن رحم ابنتها وجعلها تبر بوعدها لأمها، ورحلت الصغيرة إلى جوار ربها لتجد حضنا آخر بانتظارها، ضم قبلها قلب أمها.
وقفت عند قبر أمها وهي تحمل جثة ابنتها ، بعد أن صممت على أن ترافقها للمقبرة، وقالت لها والجميع ينظر في ذهول كبير، طلبت اطفالا، هاهي يا أمي قطعة من روحي ستأنس وحدتك وتهوٌن عليك غربتك، فهل انت راضية عني الآن؟.
بقلم: زراد جنات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق