قصة قصيرة بعنوان رائحة الموت بقلم الكاتب الشاب أحمد عبد المالك

#رائِحـــة_المَــوت
#القصة_المتحصلة_على_المرتبة_الثالثة في مسابقة القصة القصيرة حروف أسيرة النسيان التي أقامتها مجلة سراج الحياة

أربعونَ سنةً مرّت على آخر يوم كنت على قيد الحياة، ما زلت أشمُّ رائحة أوَّل كرةٍ اشتريتها، أًّوَّل سقوطٍ لي من الدراجة، كيف كنت أصْحُوا صباحًا على صوت أمِّي ‘'حمُّودة نوض أَ ماما راحْ عليك الحَال'' ما زلت أذكرُ رائحة يوم تخرُّجي من الكليَّة. كان عمري واحدٌ وعشرون، وعمرُ عقلي خمسون، حتى أنًّنِي بلغتُ الأربعين وقلْتُ ربِّ انِّي تُبْتُ الآن. كنت أعمقَ من أي شخصٍ مِنْ أبناء جيلي، حكيمًا كفايةً حينَ تسألني أمِّي عنْ نوعيةِ الأكل المُهترئ في الجامعة فأقول: والله عَايْشِينْ رَحمة ربِّي مَاكْلًة هَايْلة مايخصنا والو. أذكرُ كيف كان أصدقائي أيَّام الشباب يصفونني بقديم الطراز، لأنِّي كنت أهتم كثيرًا بالأشياء المعنوية، أٌؤْمن أنّنَي بالروح إنسان، وإلّا فلا فرق بيننا والحيوان. كان لي درجٌ بمكتبي أحتفظ فيه بأشياء مهمة وروحية كمصحفٍ قديم وسلسلةٍ حديديةٍ صغيرة لجدي. وكان لي أيضًا كراسُ يومياتٍ يلازمني أيام الجامعةِ أحتفظ فيه في الصفحة الرابعة والستين بصورةٍ لأبي، أكتب بِهِ أشياء أعتبرها مهمة دون الآخرين كتواريخ تعرفي وحديثي مع بعضِ الأشخاص. بمجرَّد أنْ أفتحه أحسُّ الأحاسيسَ ذاتَها، الرائحةَ والشعور.
الإنسانُ الصامتُ كثيرُ ضجيج القلب والعقل، دائما يكون خروف فداء يضيعُ حقّه بين الآخرين. فلطالما أردتُ أنْ أصرخ " أنا هنا. أنا موجود ‘‘كلّ ذلك جعلني أتعلّم كيف أكون شخصًا حكيمًا قويَّ الشَّخصية والكاريزما، تعلّمت الثِقة بنفسي، تعلمت الرّجولة والشّهامة وكيف أصنعُ اسمي بين الرٍّجال. تعلّمت كل هذا، لكن لم أتعلّم شيئًا واحدًا بعد، كيفَ أكونُ مثلَ الآخرين؟! غير مبالين، همُّهم عيشُ يومهم كأنّه لا وجودَ للغدّ. لكنّهم بالمقابل ناقمون على الحَياة لأنّهم لا يعلمون فظاعة الشوقِ، مرارة الحب وألم الفراق، آه كم الدنيا قاسية. فمنَ الحبّ مَا قتل أو ما دفعَ الى جُرفِ الجنون فإذا سألْتَ عني تجدُنِي تمامًا في عتمةِ تلك الهاوية، فما عليك إلّا أنْ تقع في حبّ امرأةٍ وشاهد التغيير، فبعد مدّة حتّى أنتَ لنْ تتعرّف على نفسك، تفعلُ أشياءً لم تفكّر يومًا أنّك قادرٌ على فعلها، تكتسب عاداتٍ ما كانت لك مِن قبلُ، فتتحمَّل مِن أجلها أشياءً لم تكن تطيقها، اِنّه ''الهْبال'' بحدّ عينِهِ! أمّا إذا كنتَ حَديثَ عهدٍ بالحبّ فكلّ شيء يبدأ بالخوف، الشوق، وخاصة الغيرة فمَا تلبثُ أنْ تكتشفَ أنّك قدْ وقعتَ في براثن العشق، فأين المفر؟
أذكرُ أنني صباحَ ذات نيسان كنتُ أشعثَ أغبرَ، وعندما أطلّت أحسستُ بقوّة ''بوباي'' عند أكلِه السبانخ، ف والله أنّني كدتُ أرَى النّور يشعّ مِن وجهها، فكأنّها طاووس من طواويس الجنةِ أو حورية مِن ألف ليلةٍ وليلة. حينها ارتجلتُ شعرًا:
أًطًلًّتْ تَمْشِي مِشْيَة الخَجَلِ
مَلِكَةٌ تَخْتَالُ مَهْلًا عَلَى مَهْلِ
أًطًلَّ الحَيَاءُ أًسْوَدُ المُقَلِ
ضَاقَ قَلْبِي. به عِبءٌ ثقِيلُ الحَمْلِ
إلهي، إلهي.
دَاويني شَافِيَ الأسقامِ، شافِيَ العِلًلِ

بَعدَ رحيلها أصبحْتُ زاهدًا في الحياة، ربَّما ستكونُ سببَ دخولي الجنّة، لأنّ كلّ شيء حدث ويَحدُث مَا هو إلّا لسبب معيّن. فقد وهبْتُ لها أربعين عامًا، أربعون سنة من الوفاء. فما نظَرتُ إلى امرأة بعدها، كلّ النّساء أراهنّ حمقاوات يطفينَ على السطح، همّهن العبثُ وعيشُ الحياة، لكنّها كانت مختلفة، عند رؤيتها للمرّة الأولى أوّل ما يبادر ذهنك أنْ تغوصَ وتستكشفها، لا أَعلَم إن كان سيأتي مَن مثلها إلى هذه الحياة، أشكّ في ذلك، بلْ أجْزم أنّه لنْ يكون. كانتْ عذْراء القلب نقيّة المشاعر، كلمةٌ منْها قادرةٌ على اللعب بأوتار قلبي، رشفة مِن كُحلِ عينيها تدخلني دهاليز الهُيام. فقطْ الآن تأكّدْت مِن مقولة مارك توين " بعد عشرين عامًا من الآن ستندم على الأشياء التي لم تقم بفعلها'' لأنني ندمْتُ مرّتين بعدَ أربعين عامًا. آه يا خجول، يا خجول!
قرأتُ ذات مرّة '' في عمر مَا ستعرف، أنّ الاحترام أهمّ مِن الحبّ، التفاهم أهمّ من التّناسب، الثقة أهمّ مِن الغيرة و الصبر أعظم دليلٍ على التضحية، عَداه لا شيء '' كنت أحترمها حدًّ الحشمة، أحبّها حدًّ الوفاء، كانت توأم روحي نتناسبُ و نتناغمُ كراقصي سَالْسَا معصوبي العينين، أثق بٍها و أغارُ عليها، أمّا الصبرُ و التضحية فالحكمُ حكمكم، فأن تضلَّ وفيّا رغم الموت أو الفراق هو قانون العشق الحادي و الأربعين، لم أتزوّجها لكن لم أتزوّج بعدها و لا قبلها، رغم ذلك أنجبت لي بنتا لم تلدها، اسمها '' بيكينام '' اسم فارسي يعني العفيفة آسرة العيون. لم تكن ''بيكي'' طفلة كسائرِ البنات، لم تكن عيناها زُرْقًا ولا خُضْرًا، لكنّها تملك أكثر العيون أسرًا، أكثرها خجلاً وتعبيرًا، لا تدري أعيناها حقيقة أَمْ حلم، إذا أطلْت النظر بهِما تحسُّ المَوجَ الأسود يناديك نحو الأعمق، فتصَاب بالثّمالة وتغرق كما غرقتُ أنا قبل أربعين عامًا. تعلمتُ أنْ أكون الأمّ قبل الأب، وفي وقت عملي كنتُ أتركُها مع الحاضنة، قد تقولون أنّني قاسي القلب لكن أفضل مِن بشاعَةِ حياةِ الميتم الذي كانت تعيش به، وبما أنه لا يوجد قانون بالعالم يسمح لأعزب بتبني طفل فقد دفعتُ الكثير حتّى نلتُ هذا الشرف.
أعيش الآن الوقت الضائع مِن حياتي، أربعون سنة مِنَ التدخين كفيلةٌ أنْ يشخّص الأطباءُ مرضي على أنّه سرطان رئةٍ متقدّم. فقد أدمنتُ التدخين واعتزلتُ العالم بعد ذهابها، جمعنا القدر وفرّقنا القدر. لم يتبقّى إلا أيّامٌ قليلة على رحيلي، لكنّني متحمسٌ لأنّه عند الموت يمرُّ شريط حياتنا كلّه أمام أعيننا، أخيراً سأراها فقد اشتقت إليها كثيرًا يا إلهي، أريد تذكر أيّامي الجميلة، أيام خجلنا، تكابرنا وصمتنا. أريد تذكّر أيّام الأحلام الزاهية لمستقبل لمْ يكن، بعدَ أن كان التخطيط للمستقبل أكبر همِّي. فاضَت روحي عشقا وضحّيت بحَياتي شوقا، لكِن لوْ كانت هناك حياة موازية لاخترتُ أنْ أعيش الحياة ذاتها فلستُ نادمًا على شيء في الأخير. شكرًا للقدر الذي جَمعنا وشكرًا للمكتوب الذي كتب لنا اللقاء، يا أنقى شيء حدث في حياتي. وكما يقولُ شيخُ العاشقين نزار قباني: لا علاقة حبّ بيننا لكن أحبُّ حديثك وأهتم بك وأتمنى رؤيتك وأغار عليك وأراقب نومك وصَحوك، لكنّي لا أريدك حبيب فالأحبّة راحلون. ربّما هو تأثري بفلسفة نزار الزائدة أو قلّة شجاعتي، لكنّها قصَّة رجلٍ أرادها زوجة قبل أن تكون حبيبة، وحبيبة قبل أن تكون زوجة فضاع عليه الحبّ والزواج.
أتراها تناقضات قلبٍ وخواطرُ قلم، أم هي رائحة الموت؟

بقلم: أحمد عبد المالك


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق