أسطورة الشرق الأوسط
حلما كان ولا يزال يتضاءل حجم بريقه أمام عيني، فذلك العملاق لا يزال سكرانا، يتقلب بين ثنايا فراشه الوفير، ريش قطن ديباج وحرير، وسرير أيما سرير،كنور شمس يتراءى تحت الفرش، ذهب تعانقه الحجارة والألماس واللؤلؤ والمرجان، حتى الأرض قوارير، قوارير من فضة قدرت تقدير... وترنم كالبلبل صوت الراوي، ثم علا، أرعد رعدة دف أو بندير... يا أقزام الغابة اصمتوا وأنصتوا، فما أقول غير الحكمة، وما قولي بقول أساطير، هو العملاق هو السلطان هو الكبير، اعملوا واجتهدوا، اصبروا تجلدوا، لا تثيروا ضجة، لا توقظوا الأمير، سيصحو بعد عمق راحة، بعد سبات طويل، وستذكرون ما أقول، سيبطل القول والقيل، شهر...سنة...أعوام... قرن بل عهد، بل جيل بعد جيل....أيقظوا ذاك الوسيم، ذو السمرة الممزوجة بحمرة، كم غبت في ثنايا وجهه، كم عشقت لحظ عينِه القاسي الجميل، صدره الشاسع، ورأسه المرفوع، ذو الشهامة ذو الكرم، ذو النخوة الحامي الأصيل، وبلحظه لون الأصيل، لون السماء عند الغروب، والبحر يلتهم شمسه المتراخية، لتفيض روحها، شظايا نور أصفر على صفحاته المتوالية، كم اشتقت إلى شرر عينيك حين تغار، حين تغضب حين تصول حين تجول، حين تحلق حين تطير.... جاءته تمشي على استحياء حوراء العين، خَمرية الطلعة، كاشفة الوجه ، محمرة الخدين، ممشوقة القوام، كالرمح ينافس السهام، وطول الضفائر يهوي ويدور حول ذلك الخصر النحيل، تتدلى فوقها مهتزة، على أوتار مشية مترنحة، يمنة ويسرة، ذيل الرداء خلفها، تجره، فيعيقها في سيرها نحو الأمير الغائب نحو الأثير، وبخفة تحمله على ذراعها العارية... مبلولا كان... كان يقطر،....ما كان ذاك؟ هل كان خمرا؟ هل كان رمانا أحمر؟... اللون أحمر !! تذوقته شفاهها الوردية .... ماكان ذاك؟ مر ،مر ،طعم الحنظل، ذوق العلقم، هل هو عنبر؟ .....قدح الفضة مرمي، واللون الأحمر مسكوب.... بل يترقرق من فوق التخت... واختلط اللون بلون المرمر.... حملت قدح الفضة ليلى، تلك العاشقة الحسناء، بيد تخضبها الحناء... سم ويحي قتلوا قيسا، بل طعنوه... فأين الخجر؟؟ ركضت نحوه ترمي القدح، أحدث صخبا، ناحت نوحا...قم، يا حبيب الروح وامسح أدمعي، فالغصة الكبرى تجيش بأضلعي، نأى بنا يوم الفراق الأفجع، فارفع يديك، ارفع يديك وضمني، وعد معي...أين أنت يا وردة المغرب والمشرق؟ ....أين أنت يا وردة الجزائر والبشائر، عقلي حائر، قلبي سافر، نادي معي، غني معي أو اصدحي بصوتك الثائر، أو غردي وحلقي كما يحلق الطائر، أخبري الناس جميعا، قولي لهم قيس مضى قيس غادر، لا تتركيني هاهنا وحيدة مكسورة الخاطر... جرح ينزف.... بجسمه الخائر، صاحت ليلى.... أين المخيط؟ هاتوا المخيط.... ما من مخيط، ضاع المخيط في أعماق البحر الأسود... بين بريق اللؤلؤ والمرجان، راحت تجري، تركض تعدو، هاجر بين الصفا والمروة، تجوب الوهد والكثبان، في صحراء الربع الخالي... أين الغواص العالم؟ أين الصياد العابر؟ أين الحسن الشاطر؟ سندباد والربان الماهر؟....فروا اندثروا، ثم انكسروا....لا غواص ولا ربان، قرش بالعمق وحيتان... إنسي ليلى، إنسي قيسا، مات القيس ومضى دهر وزمان... امرحي وتنعمي، ارقصي وترنحي، لدينا الجنة والأفنان، شفتاك الشهد والرمان، عيناك ريم بالبوادي شارد، تقدمي لا تهربي، فالسهم لك لا محالة صائد، لك الأساور والحلي والقلائد، فعربدي وتبختري وتمايلي وهزي قلب الهائم الولهان، ارقصي كريشة في مهب الريح بجسمك العريان، ودغدغي وجدانهم بخصرك الفتان، افتني وتفنني، أنت للعروش قائد، وللعشاق معابد، وللملوك روافد ... دعي عنك الحزن والغم والوهن، وطيري بين الأكوان..... بكت ليلى ، نادت، على الأموات يشقون الثرى وينبتون، وامعتصماه، أين صلاح الدين؟ أين بن زياد، أين العمرين وعثمان؟ .... ظلت تصرخ.... حتى كلت.... ما من رد ما من صدى....غاب النِدا... بين الصخور بين الجبال... قلب يرجف، والجمع جبان.....ضحكوا سخروا ، قولي قولي، نادي وظلي تنادي، مات المعتصم ما بالك يا امرأة؟ ما بالك تهوين الأموات؟ مات صلاح الدين وابن زياد، وعمر أيضا صار رفات، ولك عرضنا الخير والخيرات..... صكوا الباب صكا، ودكوا الأرض دكا، تفرقوا واجتمعوا، تطاولوا وامتنعوا، وقدموا لها المفتاح.... قالوا لها لا تجزعي بل اسمعي ... هناك خلف الباب بحر ميت، وميت وميت، وبحر أبيض وأحمر وأسود، أمواج بحر تطفو فوقها سفينة الرومان، هنالك بالأفق البعيد، تدنو نحونا، هذا أكيد، إليك يا أسطورة الشرق الأوسط، تحمل أسطول حديد، فافتحي لها الأبواب، وزغردي، ورحبي بالقائد الربان، وبقية الرهبان، وسلمي لهم قيسا، قد حضروا له بر أمان.... طرق على الباب قوي لم ينتظر، بل انفجر....... في ذلك اليوم الأغبر...كسر الباب... وحش كاسر، غول غادر، كشر عن أنيابه....فر الحشد خلف الجسد الهامد، دفعوا ليلى، تطفئ نيران المارد، كانت هي القربان، اشتروا أجسادهم، وقدموا أرواحهم، باعوا الطهر والإيمان، نكسوا برؤوسهم تحت المضجع، أين ينام العملاق النعسان...... تحت المخدع حركة سير.... شتتت كل السكون، أيضا سحب من دخان، تصاعدت حتى الغيوم، لهب تحت المرقد، لا ندري ، هل هي نيران !، تداركوا لهب النيران، أخمدوا دخانها، ستوقظ العملاق الكسلان.... من أوقدها؟ علها جرذان..... أخرجي أيتها الجرذان، صاح الجرذ الأكبر في حلة سلطان، من أنتم؟ من أين أتيتم؟ أهجروا هذي الديار، سأحول الأرض قفار، وصار الجرذ الأكبر تنينا، ينفث نيران، أحرقت الدار بما فيها، لم تترك غير الكثبان.... ليلى الآن سبية خلف القضبان...... أغلال من ذهب، سلاسل موثوقة بذلك القارب.... لا ربان ولا رهبان، كانت تلك سفينة القرصان.....تلك التي سرقت ليلى.....في غمرة الحزن، ترحل نفسا مكسورة، في ظلمة يأس وهوان، رضخت ليلى واستسلمت ..... خارقت قواها، كره البهاء محياها، صرخت وتضرعت، ألما تجرعت، ستارها الكبير الواسع، ينسل باطمئنان، وضفائر طويلة حُلت، في عتمة الكتمان.....عرضت لها المرآة.....تأملي أيتها المسحورة الرعناء، تأملي عنادك، غباءك، بنظرة حمقاء، أترفضين أم تقبلين؟ تفضلي ثم ادخلي جنتك الغناء.....فقط.... ارقصي، وافتني وتفنني.....ونظرت ليلى إلى المرآة.....مرآتي يا مرآتي....من أجمل الجميلات.....ساحرة طارت من أسفل الوادي، على بساطها الأسود، وحلقت، تمايلت....سخطا ضحكت، ثم انخفضت... شرا نثرت....خدرت عقول العابدين.....سحرت عيون العابثين.... ارمي عنك الثوب الأسود....وتنكري يا ساحرة، اصرخي بأرجاء السماء، ليلا ونغصي الأجواء، صيحي أنا حرة، وارمي القيود، أغيب حينا ثم أعود ، وغيري ثيابك الرثة....ثم اظهري بحلة رقص شرقية..... قد غاب الورد الأحمر من خديك.....سقطت حديقة الحياء.... وتناثرت على الثرى ذابلة مصفرة.....فاستبدليها بحمرة، من حمم البركان....طيري كجواد هائج كوني فرسا جامح، ثم ارقصي ولا تتوقفي، كجسد مجنون يسكنه الشيطان......فاتنة ، ترقص حافية القدمين، وكاظم غيط لا يتحرك....يكتم لهبا، يخفي غضبا، يسهر ليلا يضرب كفيه ويفرك.....لا يتحرك بل يتورك ....يتأمل وجِل العينين، وقلب داخله يخفق....ابق هنالك لا تتحرك....قم وتقدم.... يا صاحب اللون الأسمر، يا صاحب الشعر الأجعد.....وافرش للمحبوبة وردا، واطلب منها أن تتمدد.....أن تستلقي كبساط أحمر، تصنع جسرا، تعبر من فوقه سفن الغيلان، وابق هنالك لا تتحرك.....اهدأ وافهم.....أحضر كتبا، افتح دفتر، لا تتعلم بل كفكف دمع الأحزان.....لا تنسى، أحضر أقلام، ليس الأسود بل ألوان، لا تتعلم، بل لتسطر....سطر أمجاد الماضي، اروي تاريخ الأجواد....كي تتذكر، أو لتُفاخر، كي يستهزئ قوم من أقوام...وارفع عينيك الآن تقبل....قد تم البيع وقد رفع الميزان، مد يدا، واقبض أغلى الأثمان....عد وتوعد، أرغي وأزبد، وابق تهدد، لكن انظر دون تدبر، كي لا تدهسك الأقدام....أنظر يا أيها الوديع، هنالك فوق الرمل الأصفر....معشوقتك الريفية، بين الأحضان....عارية بين يدي قرصان أشقر....لا، لا، تغضب، لا، لا، تسعر... لا تتذمر، اهدأ اهدأ لا تتحسر، أنت المخطئ أنت المذنب، كنت القائد كنت العالم، نعم..... كنت الإمام....تراجعت، إلى الأمام !! ومن ثمة فتحت الباب ،ولها... تركت المنبر والمحراب، ثملتَ لهوتَ وحولتَ القصر خراب....وضاعت ليلى.... ضاعت ليلى فاشرب ليلى....كي تتخدر، لا دواء كما النسيان....خذ للأركيلة نفسا، احرق أعواد الدخان، وهناك مزيد.... إن كنت تريد.....ورق وحشيش، أو قطع من أغصان.....وتخيل ليلى ترقص.... لك وحدك ترقص طوعا...حبا عشقا سيلُ حنان....هزي خصرك يا ليلى هزي، دقي بقدميك الأركان، طيري واندثري، ألقي ريشك في كل مكان....أفيضي سحرك وانهمري، سيلا يسقي سهلا أووديان، اروي بكأسك ظمأ العطشان....طافت حسناء الشرق الأوسط .....طافت في كل الأمصار، تجوب المدن والشطآن... تأسر أفئدة الشبان.... حتى الأشيب والغلمان....وتراكضوا، وتنافسوا، وتجمعوا، عيونَها يغازلون، يتمتعون...في بحرها هم يسبحون....تتمايل فيسرحون.....فرشوا لها المكان...بسط وأرائك، متكئين على رفرف عبقري حسان، ... تمايلي ،الآن....لا تخجلي، سيري على الأوتار،،،قانون، عود، أو قيثار، تراقصي كأفعى الهند على عزف المزمار.....تمددي وغردي، أو اقفزي ثم اصدحي....سيري على شالي الأبيض...تحزمي، على الخصر النحيل، علم السلام....أين حقوق الطفل والإنسان؟ هل تعلمون؟ تطفو على بواخر الغيلان، على موج البحر الأبيض....وبعمق البحر الأبيض بحر أحمر.... من تحته بحر ميت، وبقاعه بحر أسود....تحت الظلمة ظلمات، سكن للقرش وحيتان.....غوصي يا حورية البحر وغني، سدي ثغرات الوديان....تسللي بين الظلمات.....هناك كنز مدفون، كنز السلطان المذكور....ذاك العملاق المغدور....ارفعيه بل اسحبيه....وقدميه للقرصان....وارقصي مع الأمواج، ...سكن الموج....وصار البحر زجاج...وبلقيس تكشف عن ساقيها بقصر سليمان، تضع التاج، ترمي العرش والكنوز والديباج .....وكنز سليمان يصير بأيدي القرصان.....أين أنت يا صاحب القصر تفطن... ضاع القصر، وليلى ترقص غضبا.... تهز بأرجلها الأركان..... سقف البيت بالكاد يقاوم ،.....توقفي، بدأت تنشق الجدران .... صاح الديك مع الآذان....شُحِذ الخنجر.....ذُبح الديك، وعاد الخنجر، يقطر غدرا، ينشر في الكون البهتان....وظلت حسناء الأرياف، ريم البادية الهيفاء، ترفع ساقا بعد الساق، تشعل بركانا خامد، تحدث زلزالا راعد.....وأهل الدار يصفقون، لا يعلمون ! بل يعلمون....هم غافلون، لا يفقهون، في نشوة لا يشعرون، لم يسمعوا !! صوت انفجار، شيء ضخم ينهار، و بينه صوت يصرخ، أو يترجى أو يتوعد ثم يهدد.....قم..... قم يا أيها المارد.....قم يا عملاقي النائم، أحضر داحس أو غبراء، احملني على فرس أصيل، طر بي فوق السحاب، فوق الأمم عبر الزمان، اجعلني قمر الزمان، وإلا... فيا أيها الثمل السكران.....دع القصر يهوي على الجمع، دعه يهوي على جسدي، دعه يفتت جثتي، فبرقصتي أدمر الأوطان، أحيلها رمادا أو دخان، زمنا بعد زمان، وبآخر الزمان، تطوف روحي ، ترقص رقصة ثعبان، رقصة عابثة فوق الجثث، وأكتب آخرأيامي، بدفتر لا يتمزق، بأوراق لا تتبعثر، حكاية الشرق الأوسط....أسطورة الشرق الأوسط
بقلم: فاطمة الزهراء آمال شربال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق