اطرة بعنوان أنتريا بقلم المبدعة نعمة نقاب



أَنْتَرِيَا
هذه شهقةٌ أريد أن تطفئ شمعة الهجرة في عقل كل شاب...هي شعلةٌ أريدها أن تكون سراجا للشباب يدله على الطرق إلى وطنه

قالوا إن السفرَ بلا متاعٍ يكون أكثرَ متعةً، ويقرِّبُ من المسافر احتمالاتِ عودته...
فما بالي بلا متاعٍ، لكنني كمَن يحمل الجبال على ظهره، وعلى صدره أيضًا، وليس في قلبي أضعفُ إيمانٍ بالعودة والرجوع!
أنا، جزءٌ من هذا اللامكان، مسافرٌ إلى وِجهةٍ هي الآن مجردُ خاطِرٍ لا أدري إذا كان سيصافح الواقعَ أم لا، أنا فقط، مسافرٌ بلا ملامح، وقفَ قبل الآن طويلاً على رصيف الميناء، نظرَ في البحر الذي يرتمي في حضن السماء في الأفق، أصغى متمعِّناً في صوت النوارس الآتية من الأرض البعيدة، وغازل الشمسَ التي تغار من كل نظراته التائهة في الأمواج المتمايلة.
في تلك اللحظات، لم تكن رغبة الحديث تعتريني، ولو للحظة، كان الصمت سيدَ الموقف، وحده كان يقول كل شيء بالنيابة عن كلِّ الكلام.
كم من الأحلام سجنتُها في كل عُقْدة من شِباك الصيد التي كنتُ أحيكُها يوميا كجزء من عملي، كم حكايةً خُيِّل إليَّ أنَّ الأمواجَ تهمس لي بها من وحيِ البلاد البعيدة التي عادت منها، تلكَ التي تقع في حدود الأفق، لم أكن أستمع إلى موسيقى غيرها، كانت هي موسيقايَ وطرَبي وكلَّ ألحاني. لا أذكر كم مرة كتبتُ كلمة حبٍّ، أمنية، فكرة مجنونة، اعترافا  أو سرًّا حتى على قصاصة ورقٍ ألُفُّها بعناية، بحنانٍ خوفا من أن تتلِفَها يدي القاسية الفظَّة، التي تعلمت الخشونة من عمل الشِّباك الذي نزع منها كلَّ رقَّة، آخذها بحنانٍ بعد أن أرسم عليها بشفاهي التي يكون العطشُ أضناها و تشقَّقت بها كلَّ مظاهر الجمال، أرسمُ قبلةً أحاول أن تكون دافئةً بكلِّ ما أوتيتُ من قدرة على ذلك، و أضعُها أخيرا في قارورة من زجاج من تلك التي تكون مرمية على الشاطئ بعد أن استُنزِف محتواها، ثم أسلِّمُ عليها أخيرا، و أبثُّها عن قربٍ و بهمسٍ، كلَّ آمالي في أنْ تبلِّغ الشاطئ الذي سترسو فيه تحياتي، ثم أهديها للموج بشوقٍ، بانتظار آنيٍّ  يبدأُ لحظةَ الفراقِ ذاتِها.
أصبح هذا طقسا خاصًّا أمارسُه كما لو كان جزءاً من عبادةٍ ما لا يجوز تركُها أو إهمالُها، ولعلَّ السبب هو ذلك الإيمان الخفيُّ الخجولُ داخلي، الذي يجعلني أعيش مترقِّبا، أنتظر أن تأتيني زجاجةٌ من الطرف الآخر، تحمل جوابا أو ردًّا، أو أملا مكتوبا على الأقل، بأن الطَّرف الآخر موجود، أو ربما هو استسلامي لأحلامي الوردية أحيانا، عندما أتمنى أن أكون أنا على ذلك الطرفِ الآخر لاستقبالها.
ما عاد في ذلك الميناء زاويةٌ بلا ذكرى أو حلُمٍ أو أملٍ، كلُّ الأشياءِ هناك تعرفني أكثرَ ممَّا أعرفها أنا، حتى شباك الصيد ما عادت تعصي أصابعي، لأنني أيضا ما عدتُ أقسو عليها كما كنتُ في البداية، ربما لأنني أُداري في الواقع تلك الأحلام والأسرار التي دسَسْتُها في عُقَدِها.
الآن تركت كلَّ شيءٍ كما هو ورحلت، هجرتُ كلَّ انتظاري، حملتُ حقيبةَ ظهرٍ صغيرة فيها بعضُ الآمال الخائبة، والبعض من تلكَ التي ماتزال تقاوم، وجعبةٌ حُبْلى بأحلامٍ مستعجِلةٍ جاءها المخاضُ مبكِّرا جدًّا.
أنا الآن انظر إلى نفس البحر والأمواج، نفسِ السماء والرمال، لكنها لا تبدو أبدا كما عهِدْتُها، آهٍ! كم أشعُرُني غريبًا بينها الآن.
أرى فيها اليومَ و على غير عادة، وجهَ أمي التي ودَّعتُها صباحا كَكُلِّ يوم، قبل توجُّهي إلى عملي بالميناء، أردتُ و بشدة أن أسجد أمام قدميْها و أقبلَهما حتى يُلثَم التُّراب تحتها بقُبَلي، أن أطلبَ عفوَها، أن أسألَها أن تسمح لحبِّها بأن ينتصرَ على غضبِها عليَّ لاحقا، أردتُ أن أتيه في عينيها و  أملأ مقلتايَ بنورها، لكن، كان هذا سيبدو غريبا جدا، ستقلق، و أنا أعلم أنها ستقلق لاحقا بما فيه الكفاية، نظرتُ إلى منزلنا لكن لم أودِّعه كما يجب، لأن أمي كانت كعادتها، تقف عند بابه تحرُسني بنظراتها حتى أغيبَ عنها، سلَّمتُ على العم عيسى و هو يفتح بقاليته الصغيرة، كم أردت أن أحضنَه، و أستنشقَ رائحة كلِّ تجاربه و نصائحِه التي حَبَاني بها منذ نعومة أظافري، لكن لم أستطع، ابتسمتُ له و سرتُ على مضَضٍ، و في داخلي رغبة شديدة في العودة إليه، نظرتُ إلى الشارع كما لو أنني أرسِّخ صورتَه في ذاكرتي، إلى الأطفال الذين يمرحون و يطلقون ضِحكاتِهِم الصادقة في الفضاء، إلى الفوضى التي تُحْدِثُها أصواتُ السيارات المارَّة و التي تمتزج بتلكَ الصادرة عن محلات الحِدادة و النِّجارة. لأوَّل مرَّة، لم أنزعج من كلِّ تلك الفوضى، شعرتُ أنني بتهوفن، وقد مُنح فرصة أخرى ليسمع سمفونيته الأخيرة!
أقلِّب صفحات ذاكرتي، وأنا جالسٌ على الشاطئِ الذي سيكون آخرَ عهدٍ لي مع اليابسة إلى أجَل مازال غيرَ مسمىَّ.
 تحضُرني الآن أمور ما كنتُ لأتوقَّف عندها لولا هذا الشوقُ الغريب الذي يحتلُّ أوْرِدتي و يبرِّد أضلُعي، و الذي ما عشتُه قبل هذه اللحظة، أشتاق الآن مثلا إلى طعم قطع الشكولاتة كطفلٍ صغيرٍ مدلَّلٍ يريد حلْواه، أتذكَّر قميصيَ الأزرقَ المفضَّل، حتى صوتَ صديقي حسن المزعج الذي كان يصدح به في كلِّ مجالِسنا، و كلَّ خساراتي و هزائمي في لعبة الطاولة لصالح عليِّ، حتى أنني تذكَّرت ابنة جارتنا "سارة"، شعرتُ بذنبِ تركِها فجأة لا أدري لمَ، تذكرتُ كم كنتُ أحتارُ في أمرِها عندما كانت تبعد إصِّيصَ زهور الياسمين المتدلي على مدخل العمارة  و الذي يزهر مع كلِّ ربيعٍ محتفلاً بقدومه، لم أكن افهم كيف لفتاةٍ برٍقَّتِها أن تُزعجها أزهار بجمالِ الياسمين...
عطستُ فحمدتُ الله، ورجوتُه الشفاء من الحساسية التّي تعذبني كلَّ ربيعٍ في كل نفسٍ أستنشقُه يكون مليئا بغبار الطَّلع والروائح الصادرة من الأزهار.... سارة، الآن فقط فهمتُ لمَ كنتِ تُبعدينَ الياسَمين!
أنا مسافرٌ الآن بلا هوية، زادي حقيبةٌ ضاقت بكلِّ الأغراض، فحملتُها خفيفةً من كل مادَّةٍ، مثقلةً بالذكريات والصُّور، مهاجرٌ بلا ميناء، بلا تاريخِ انطلاقٍ أو وصول، مستسلمٌ سئم الانتظارَ على رصيف الميناء، فارتمى إلى البحر يسألُه بلوغَ الضِّفة الأخرى التي مازالت غير جليَّة.
قاربُ حياتي أو موتي ربما، لا أدري ماذا أسمِّيه، قد جاء، قد بلغَ الآن مياه حياتي ودخل إقليمَها، نظرتُ إلى ما تركتُ خلفي، لوَّحتُ بيدي الفارغة وتركتُ الهواء يستوطِنُها بذرَّاتِه، وشدَدْتُ بِيَدي الأخرى على قطعةٍ من شْباك الصيد أخذتُها تذكارَا أو عزاءً، او علَّني أخذتُها..."بطاقةَ هوية"، تمنَّيتُ لو أنني إذا فتحتُ يدي وجدتُها "جوازَ سفر".
............. ................... ............
علِقت بإحدى شِباك قاربِ صيدٍ زجاجةٌ كانت ضائعةً في لجج الأمواج، تسيِّرُها كيفما أرادت، ولا أحد يعرف من أين ومنذ متى وهي تصارعها، فتح الصَّياد الزُّجاجةَ وقرأ الورقة المسجونة داخلها:
"اكتبُ الآن، من اللاَّمكان واللاَّزمان، لأنني تركتُ كلَّ عناويني وأزمنتي على اليابسةِ التي ما عادت الآن تظهرُ من أيِّ جهةٍ وسط كلِّ هذه الزُّرقةِ التي تخنقني.
أنا مسافرٌ بلا جواز سفر، لأنني ملأتُ كلَّ أوراقه برحلات متهوِّرة، طامعةٍ، عمياء، متطلعةٍ إلى ما وراء البحر...أنسَتْني أن أعيش الأحلام التي كانت تستحقُّ أن تعاش على اليابسة.
أتمنى لو أنني أحظى بورقة أخيرة في جواز سفري المُعدم، ورقةٌ أخيرةٌ أقطعُ بها تذكرة عودةٍ إلى الشاطئ الحبيبِ البعيد!
أريدُ أن أعود إلى أمي التي تدعو الآن بكلِّ براءة على سِجَّادتِها أنْ يوفِّقَني اللهُ في عملي، إلى سارة التي تبعِد عنيّ الياسَمينَ حتى لا يستفزَّ حساسيتي، إلى عملي المُضني، إلى شِباكي، إلى كلِّ ما يحدثُ من أمورٍ على ذلك الطرفِ الذي يُدعى "وطن"!
بقلم : نعمة نقاب.




هناك تعليق واحد: