أمواج السراب بقلم الكاتبة لحن الحياة
استسلم أحمد للنعاس وهو يرتب الملفات على المكتب في غرفته الصغيرة الموحشة ذات الألوان الداكنة ، اللون الرمادي الذي امتزج بلون الإسمنت المهترئ على الحائط فهو يخبئ داخله دموع الحزن الذي أصابه بسبب التشققات لكنه كان كفيلا أيضا بأن يخبئ حزن أحمد وآلامه التي لا تنتهي ، لم يكن اليوم مختلفا كثيرا عن الأمس في حياته ؛ فقد عاد من رحلة بحثه اليائس إلى المنزل ، جلس إلى مائدة الطعام لتناول العشاء ، لم يكن طبعا كما فكر فيه بطنه الجائع دجاجا مقليا أو لحم ضان ، لكنه لم يعتد التململ من الحياة البائسة فقد كان الدفئ العائلي والبساطة التي يعيشها تجعله قانعا قليلا وراضيا بحاله ، دخل إلى غرفته فارتطم رأسه كالعادة بعارضة الباب فقد كان أحمد طويلا ممشوق القامة وغرفته صغيرة وضيقة ، فذلك فقط ما استطاع أن يفوز به في منزلهم الصغير ليوفر له بعض الخصوصية حيث فاز بها بعد صراع طويل مع أخيه الأصغر أنس بعدما غادرتها أخته أمينة إلى بيت زوجها ، جلس أحمد على الكرسي ووضع محفظته على المكتب الذي يكاد يئن ويتكلم ليقول لأحمد أنه تعب وحان الوقت ليحال على التقاعد ويرتاح من حمل أثقال الكتب والملفات ، أخرج أحمد شهادة تخرجه من الجامعة وأعاد تعليقها على الحائط بجانب صورة جده وكأنه يترحم على كليهما في آن واحد وبعثر قصاصات الجرائد هنا وهناك عله يجد بينهم عنوانا غفل عنه ولم يدق بابه للحصول على عمل ، وبينما هو يسرح في أفكاره المششتة حتى غلبه النعاس فنام نوما عميقا . انتهت أم أحمد من ترتيب المطبخ ثم دخلت إلى غرفتها فوجدت زوجها يشاهد التلفاز ويضرب كفا بكف.ما بك يا جمال لماذا أنت غاضب ؟
أنا مقهور جدا على هذا الحال الذي نعيشه ، جميع الشباب يهاجرون بلادهم بحثا عن العمل ويتخذون طرقا غير شرعية في الهجرة فيعودون نعشا محمولا على الأكتاف والبعض فيهم لا جثة له أصلا ، إنهم يسلمون أنفسهم لقمة سائغة لأمواج السراب.
أنا خائفة جدا على أحمد فقد أصبح منطويا كثيرا هذه الأيام ويحتفظ بحزنه داخل قلبه ، لا تخافي يا عائشة فقط سلمي أمرك لله واستودعيه إياه.
دخل أحمد إلى مكتب المدير التنفيذي في شركة البيان لصناعة الزجاج ، تحدث معه مليا ثم نظر إليه نظرة سرور وهو يوقع عقد العمل معهم لمدة ثلاث سنوات مع مكافآت مالية للجهد الزائد وسيارة خاصة بالعمل ، وضع القلم في جيبه فأحس بوخزة في إصبع الإبهام ، استيقظ أحمد فجأة فوجد إصبعه يحترق والأوراق من حوله تكاد تتحول إلى رماد فقد أوقع الشمعة وهو مسرور بذلك الحلم ، أسرع وأطفأ النار من حوله قبل أن تنتشر وتحرق باقي الأوراق ، لم يكن مصدوما من أنه كان يحلم بقدر ماكان سعيدا لأنه علق شهادة تخرجه على الحائط وإلا كانت ستتحول إلى رماد ، غير ملابسه سريعا وخرج من المنزل ذاهبا إلى صديقه كمال لكنه إلتقى به في نصف الطريق فرحا مسرورا ، أحمد ستبتسم لنا الحياة أخيرا ونحقق جميع أحلامنا ، لقد التقيت اليوم مع أحد العاملين في ميناء العاصمة وأخبرني أن هناك مركبا متوجها نحو إيطاليا في الأسبوع المقبل وهو مركب مضمون جدا فقط سندفع له عشرة ملايين سنتيم دون تأشيرة ، لكن المبلغ كبير جدا يا كمال من أين لي به؟؟
تدبر أمورك يا صديقي لا مجال للتراجع إنه الفردوس المفقود ماوراء البحار حيث تتحقق الأحلام .
عاد أحمد إلى المنزل والتفكير يرهق كاهليه وأخيرا سيلقي بنفسه بين أحضان الحياة الجميلة لتنتهي أحزانه وآلامه فهذا ما كان يعتقد للأسف ، مرت ثلاثة أيام وأحمد يفكر في طريقة لتدبر المال لكنه لم يجد أي حل وبينما هو جالس في غرفته حتى سمع أمه تتحدث مع أخته أمينة ؛ لقد قررت أن أبيع قطع الذهب التي أملكها وأعطي ثمنها لأحمد عله يفتح بها مشروعا صغيرا يبدأ به حياة جديدة ، في ذلك الحين لعب الشيطان بتفكير أحمد وابتسم ابتسامة مصطنعة يقنع بها قلبه الحزين وتفكيره المرهق ، في اليوم السادس دخل جمال مسرعا إلى المنزل و طلب من عائشة أن ترتدي ثيابها ليذهبا إلى جد أحمد المريض في المستشفى وعندما خرجا من المنزل أسرع أحمد إلى غرفة أمه فتح باب الخزانة الذي لم تعتد أمه على إغلاقه لأنها تدرك تماما أنها ربت أولادها على الأمانة والصدق ، حمل قطع الذهب وهو يبكي ويقنع نفسه بأنه مظطر لذلك و سيعوض أمه أفضل من ذلك حينما يذهب إلى إيطاليا، خرج مسرعا من المنزل متجها نحو محلات الصياغة في سوق المدينة ، باع القطع الذهبية باثنا عشر مليون سنتيم ثم مر على صديقه كمال وذهبا للميناء ودفعا تكاليف السفر واتفقا على الالتقاء في الصباح ، عاد أحمد إلى المنزل فوجد الجميع عند جده في المستشفى رتب حقيبة ملابسه ومحفظة أوراقه وطبعا لم ينسى شهادة تخرجه وصورة جده الذي كان دائما يفخر به ويدعمه بحكمته التي تجرعها من كأس الحياة ، ترك رسالة لأهله فوق طاولة الأكل وخرج متجها نحو مصيره الأبدي.
التقى مع كمال في أول الشارع فنظرا إليه مليا وقبلا حيطانه المهترئة التي طالما ارتطما بها وهما يمارسان مختلف الألعاب الطفولية ، صعدا إلى المركب فانطلق في الحين وهو يحمل على متنه شبابا بأمتعتهم البسيطة وأحلامهم الكبيرة .
عاد جد أحمد إلى المنزل فبقي الجميع عنده حتى يشفى ، دخل أنس إلى المنزل فلفتت الرسالة انتباهه حملها وقرأ ما فيها فصاح بأعلى صوته : لماذا تركت أخاك وحيدا يا أحمد ... عاد مسرعا إلى منزل جده فوجد الجميع مجتمعين حول التلفاز يشاهدون نشرة الأخبار ، انفجر بالبكاء وهو يخبرهم الحقيقة المرة ، فزع الجميع وتعالت الأصوات .
لماذا فعلت ذلك يا حبيب أمك لماذا سلمت نفسك لأمواج السراب؟ وحينها صاحت أمينة انظر يا أبي إنهم يقولون في نشرة الأخبار أنهم عثروا على مركب غارق وسط البحر كان متجها إلى إيطاليا ويحمل شبابا من العاصمة يا إلهي هل يكون نفس المركب الذي سافر فيه أحمد؟. في تلك اللحظة رن هاتف جمال فرد قائلا : ألو نعم تفضل أنا السيد جمال عيساوي من معي ؟ أنا السيد أمين أكلمك من مكتب الملاحة بميناء العاصمة ، لقد استلمنا جثة ابنك أحمد الذي غرق في مركب متجه نحو إيطاليا في هجرة غير شرعية وهو الآن بمصلحة حفظ الجثث فعليك التقرب في أقرب وقت لاستكمال الوثائق واستلام جثته.
وقع الهاتف من يد جمال وخار بجسده المثقل على الأرض وقال: ضاع أحمد يا عائشة سرقته منا أمواج السراب.
في تلك اللحظة انهار الحائط المتشقق في غرفة أحمد الصغيرة معلنا عن تعبه من تحمل آلام أحمد وأحزانه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق