قصة قصيرة بعنوان وحوش ميانمار بقلم وحي أفكاري.


وحوش ميانمار
قرب الموقد في مطبخ منزلنا وقفت منتصبا، كنت أحضر عصيدة الأرز لعائلتي، أمي، أبي وأختي التي بلغت خمس سنين الأسبوع الماضي.. بينما كنت أنتظر نضوج العصيدة، ألقيت ببصري إلى الخارج من النافذة الصغيرة الموجودة في جدار المطبخ لأرى مشهدا مريعا، عدد هائل من الخيم الفوضوية المقامة على أرض موحلة بللها المطر الغزير ليلة البارحة، كانت هذه الخيم عبارة عن عمود مثبت على الأرض يتدلى منه غطاء مربع من قماش رديء به العديد من الثقوب، ومثبت إلى الأرض في زواياه الأربعة بمسامير كثيرة، لا تقي هذه الخيم أهلها من حر ولا برد، ولا مطر ولا رياح.. إنهم في أشد حالات الفقر! فقد هجروا من مساكنهم بالقوة، ومورس عليهم أشنع ما قد يتصور العقل البشري، هكذا سمعت من حديث أبي وأمي ليلة البارحة.. لقد لجؤوا إلى قريتنا طالبين الأمان والعيش بسلام، لا أكثر..
كنا نبدو أغنياء أمام هؤلاء، فنحن لدينا سقف يؤوينا، ويحمينا من تغيرات الطقس.. نحن أحسن حالا منهم فلدينا غرفة صغيرة، نطبخ ونأكل وننام ونلعب فيها، هذه الغرفة الصغيرة هي التي تميزنا عن أولائك المحرومين ذوي الخيم الرثة..
نحن نبدو أغنياء أمام هؤلاء، فهم لم يجدوا ما يسترون به أجسادهم الهزيلة إلا بعض الأسمال البالية، وأوشحة تغطي رؤوس نسائهم، أما نحن فلدينا ملابس من العام الماضي، مرقعة في أماكن عديدة ولكنها لا تزال جيدة، وستصمد مدة أخرى من الزمن ريثما نشتري غيرها.
نحن نبدو أغنياء أمام هؤلاء، فهم لم يجدوا ما يسدون به جوعهم، ويسكتون به زقزقة عصافير بطونهم الخاوية إلا من بعض ما يجود به المحسنون.. أما نحن فلدينا هذا الأرز الذي نصنع منه كل يوم عصيدة تعتبر وجبتنا الوحيدة في اليوم.
لقد سمعت من والدي أنهم أُبيد منهم الكثير، شيوخ ونساء وأطفال.. هزتني كلمة أطفال، فقد صورت في مخيلتي حشدا ممن هم في مثل سني مقتولون بدم بارد، وملقاة جثثهم على الأرض تنهشها الحيوانات الضالة، تسمرت هذه الصورة البشعة في مخيلتي ولم ترد مغادرتها، وظلت تعذبني كلما أردت أن أخلد للنوم..
انتبهت من أحلام يقظتي مع نضوج العصيدة، فسكبتها في الصحن وأخذتها إلى حيث يجلس أبي وأمي الحامل في شهرها التاسع، فهي على مشارف الولادة، ناديت أختي التي كانت تلعب في ركن آخر بدميتها المصنوعة من القش، جلسنا إلى المائدة فقالت أمي: أشكرك يا بني، لقد عانيت معي كثيرا وقمت بجميع واجباتي رغم أنك لم تتجاوز العاشرة من العمر، لَكَم أتمنى أن يرزقني الله ولدا يَشُدّ به أزرك ويكونَ لك نِعم الأخ والرفيق في المستقبل..فأنت بحاجة لمثل هذا الأخ..
"شكرا يا أمي، فأنا أنا لا أبغي في هذه الدنيا إلا رضا رب العالمين الذي لا يكون إلا برضاك أنت، وأيًّا كان ما سيرزقك الله، فسأجعله قرة عيني ورفيق دربي..
ها هو الليل قد أسدل غطاءه الأسود في السماء فأحال زرقتها سوادا، أخلدت إلى فراشي منهكا، ها هي تلك الصور البشعة قد عادت إلى مخيلتي من جديد، آه... كم أمقتها، فهي لا تدعني وشأني.. إنها تحيل بهجتي حزنا.. وابتسامتي دموعا..وانشراح صدري ضيقا.. إنها تقلب مزاجي رأسا على عقب.. لا أدري ما سر ذلك الشعور الذي ينتابني كلما تذكرت حال أولائك الناس، إنه مزيج من الخوف والرهبة، و من الشفقة والرأفة.. وما فتئ النعاس أن نال مني وغطست في نوم عميق..
مع بزوغ الفجر وظهور أول شعاع من شمس يوم الإثنين، استيقظت على صدى صوت عنيف.. صراخ ممتزج بنواح نساء وبكاء أطفال، يا إلهي! ماذا يحدث؟ مالذي جرى؟ لماذا كل هذا الصراخ الذي يعم الأجواء؟... ما هذا؟! إنه صوت آخر يملئ الأجواء.. كأنها طلقات نارية!! يا إلهي!
سرعان ما أتت أمي مسرعة نحوي وهتفت قائلة: إنهم الوحوش يا بني، هيا قم بسرعة، سنهرب قبل وصولهم هيا انهض، إن أباكك في العمل ولا يوجد من يحمينا..
لم أشعر برجلي كيف هرولتا إلى الخارج وأنا أتبع أمي التي لم تقو على الجري، ولكنها كانت تحث رجليها لتمشي بأقصى سرعتها.. في الخارج رأيت حشدا من الناس يتدافعون للهروب من شيء ما كان وراءهم، التفتت إلى الجهة المعاكسة لهروبهم، فبرزوا لي من بعيد.. إنهم الوحوش، أجل هم بالتأكيد، من لباسهم عرفت أنهم جنود في الجيش، يحملون بأيديهم بنادق يصوبونها في كل مكان.. تمسكت بأختي التي كنت أحملها وركضت مع أمي خلف الحشود، هاربين إلى مصير مجهول، لا ندري هل سندرك المساء؟ أم سنقتل الآن على أيدي هؤلاء الوحوش..
بدؤوا يقتربون أكثر فأكثر، وبدأ صوت رصاصاتهم يعلو.. تشتت الجموع، وطفق كل امرئ يهرب باتجاه يحسبه الملاذ الآمن له.. كان مشهدا مروعا، يشبه إلى حد بعيد مشهد يوم القيامة الذي كنت أصوره في مخيلتي بلإستناد إلى الحكايات التي تصف هذا اليوم العظيم والتي كان أبي يقصها علي طوال الوقت، والآيات التي كان يتلوها علي من حين لآخر.. لم أفارق أمي أبدا، وظللت متمسكا بأختي التي كانت تصرخ وتبكي بشدة..
لقد وصلوا، أجل لقد وصلوا إلينا! هذه الوجوه البشعة المرعبة.. وتلك العيون التي تنفث النار بنظراتها المقيتة.. شعرت أنهم لا يتحركون بملئ إرادتهم، بل يحركهم الحقد والكراهية اللذان يسكنان في آعماق وجدانهم.. شبهتهم آنذاك بدمى الماريونيت، التي ترتبط بتلك اليد الآدمية فتحركها حيثما شاءت.. إنهم يزرعون ذلك الحقد والتمييز الديني والعرقي في أطفالهم وهم لا يزالون أجنة في بطون أمهاتهم!
لاح لي من بعيد مشهد مروع! رجل من الجيش يطعن شابا في صدره بخنجر فيرديه قتيلا.. وقع ذلك المنظر على مقلتي كالصاعقة! أهؤلاء بشر؟ وإن كانوا كذلك فهل بمقدور بشري أن يفعل ذلك بأخيه؟ سمعت صراخا صادرا من جهة أخرى.. التفتت إليها لتصيبني الصدمة!! مشهد لا يطاوعني لساني على وصفه لقذارته وبشاعته.. ثلاث رجال يقعون كالبهائم الضالة على فتاة قاصر لا حول لها ولا قوة.. يستلذون بتعذيبها، وتتعالى ضحكاتهم لتمتزج مع صوت صراخها الذي يذيب الحجر وكل شيء، إلا قلوبهم.. إنه اغتصاب جماعي لقاصر.. تأكدت بعدها أن ما قالته أمي صحيح، إنهم وحوش انتحلوا هيئة بشر! أنتم وحوش.. وحوش.. وحوش...
لا أصدق كيف نجوت وأمي وأختي من تلك المجزرة! لقد مات الكثير، رأيت بعيني تلك الجثث المضرجة بالدماء والمرمية على الأرض.. أناس كانوا يركضون معنا، أصبحوا الآن بجوار ربهم.. عذبوا وقتلوا بأبشع ما قد يتصور عقل بشري.. لكن لماذا؟ لماذا نعامل بهذه الوحشية؟ ظل هذا السؤال يحيرني، إلى أن اكتشفت جوابه أخيرا، الجواب هو: لأننا مسلمون.. لكن لماذا يفعلون بنا هذا نحن بالذات؟ الجواب: لأننا أقلية.. أقلية روهينجية في بلاد معظم أهله بوذيون..لم يتقبلوا وجودنا بينهم ،اعتبرونا مجرد لاجئين منبوذين.
لكن السؤال الجدير بالطرح هو: أين إخواننا المسلمون في أ
نحاء العالم؟ لماذا لا يقدمون لنا يد العون؟ هذا هو السؤال الذي لم أجد له جوابا.. ربما هم لا يهتمون لأمرنا أصلا.. أو ربما أنهم يهتمون لقضيتنا حقا، لكن السلطة ليست بأيديهم لاتخاذ القرارات الحاسمة.. وتبقى هذه مجرد فرضيات لا أكثر، لكن الشيء الذي تأكدت منه الآن هو أن المسلمين اليوم قد بلغوا درجة عالية من الذل والهوان، بحيث لا يقدرون على اتخاذ أي قرار دون استشارة من هم أعلى منهم.. والأمر الآخر الذي أنا متأكد منه أيضا هو أن وعد الله سيتحقق، وسوف تعلوا راية الإسلام مجددا.. متأكد من ذلك..
وأنا في غمرة أفكاري، إذ بأختي تسرع نحوي لتبشرني بالمولود الجديد الذي أتى للدنيا، يا فرحتي، لقد أصبح لي أخ.. لكن يا حسرتي عليه، فقد كتب له أن يعيش في الملاجئ، ملاجئ مسلمي بورما المضطهدين. أدعو الله أن يجعله وأقرانه سببا لتمكين دين الله في هذه المعمورة.. اللهم مكن لدينك في أرضك واجعلنا سببا للتمكين..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق